الأحد 2020/07/12

آخر تحديث: 08:13 (بيروت)

أنا المحظوظة التي لا تفرح ولا ترتاح

الأحد 2020/07/12
أنا المحظوظة التي لا تفرح ولا ترتاح
في الحمرا.. حيث انتحر علي الهق (غيتي)
increase حجم الخط decrease
توقفتُ عن الكتابة لمدة شهر أو شهرين. شيء ما في داخلي قرّر السكوت. تصلني الأخبار كل صباح وتصطدم بذهني كموجة صاخبة وتتكسّر الواحدة تلو الأخرى. جثة علي الهق أمام "مترو المدينة"، أجساد الشبان المرضوضة الزرقاء، فقط لأنهم قرروا التنزّه مع صديقاتهم، البرادات الخاوية، الاعتقالات التعسفية، المنازل المظلمة، المدينة وهي تتلاشى وتتحوّل مسخاّ أمام عيون سكانها. ومجدداً، منظر دماء ابن البقاع على أرض مبنى "الساروللا" الذي لطالما كان شاهداً، ومنذ فترة غير بعيدة، على لحظات الضحك والنشوة والموسيقى والحب والحياة.

شيء ما في داخلي قرّر السكوت وعدم التعليق على أي حادثة. لم أعد أعرف هل أن الجوع كافر، أو من هو الكافر، وما هو الكفر أصلاً، وهل أنه علّة أو خطيئة تكفي لوصف ما يحدث؟ هل أنه خطيئة أصلاً؟ هل كان لعلي إله يرعاه ويطعمه ويحميه؟ وحتى لو كفر، أليس من حقه أن يكفر؟ وهل يكفي الإيمان لردع القاتل؟ هل يكفي الإيمان لإطعام جائع وإنقاذ روح؟ ضج رأسي بالأسئلة، لكني لم أعرف إلا السكوت… الحديث يدور حول الانتحار، أو بالأحرى "النحر"، الفايسبوك أصبح ورقة نعوة. لا أستوعب الصدمة. لا، لم يقتل عليّ نفسه، ولم تغطِّ دماؤه أرض الحمرا. أقول لنفسي أنا محظوظة، أنا بعيدة من ذلك كله، ولم أرَ المشهد بأمّ عيني. وطبعاً أشعر بالذنب بسبب ذلك. أشعر بالذنب أني أعيش حياة "طبيعية"، حتى لو دفعتُ ثمنها غالياً. طبيعية، لكني لا أجيد الفرح ولا الراحة ولا حتى الكلام ولا الكتابة. لذلك التزمت الصمت. لن تأتي البكّاءة إلى مجلس العزاء، ولن أدعها تبكي وتنوح، ولن يتكلّم أحد. لن تقول لعلي "قوم ما بتلبقلك هالنومة". ربما ارتحت يا علي، والنوم أهون من الذل. فليسكت الكلام ولتسكت البكّاءة وليسكت الشيخ...

ثم في خضم هذا السواد، أرى فيديو لـ"دي جاي" في مسبح لبناني، يهتف ويغنّي معلناً سعر الصرف الجديد، فيما يرقص زوّار المسبح بين كؤوس البيرة والعرق والمياه المالحة، على وقع الطبل وموسيقى الانهيار! المشهد خرافي فعلاً. يبدو عليهم الفرح والبهجة. لا أفهم. ما هي هذه العادة البائسة في تحويل المصائب إلى مصدر سخرية واحتفاء؟ أقول لنفسي ربما هم غير متضررين… رواتبهم بالدولار ربما. أو ربما هي فقط طريقة لنفي المصائب والاحتفال كعادتنا، نحن اللبنانيين، في حب الحياة ما استطعنا إليه سبيلاً. ثم تظهر لي هذه الفرضية مقيتة أيضاً. كل هذا المزاح والمرح يمتصّ الغضب ويمنعنا من الفعل والتحرّك. كل هذه الكذبة في أبدية الشعب اللبناني وحبه للحياة وصموده بسبب هذه joie de vivre السافِهة تحدّق في عيوننا وتقهقه وتبصق في وجوهنا. ها هم يرقصون لها، هنيئاً لهم وهنيئاً لنا!

أتابع يومي وعملي ولا أزور مواقع الأخبار إلا قليلاً. كل الأخبار تصلني أصلاً من مجموعات الواتساب. من محادثاتي مع الأصدقاء في ساعات الكهرباء. أشعر بالتعب. في المقهى، أستمع إلى أجانب يتحدثون الانكليزية. أشعر بالحقد لسبب ما: ها هو شعور المظلوميّة ينتابني، وأقول لنفسي، هؤلاء يأتون إلى بلادنا بعدما نهبتها وخرّبتها حكوماتهم، يعملون في منظمات الإنقاذ ويتقاضون ما يكفي لإطعام مئة عائلة، يجلسون في المقاهي يتحدثّون عن أثاث منازلهم والعطلة والأكل وأماكن السهر ومشاكلهم التافهة… أحقد عليهم. ثم أستدرك أفكاري وأقول، لا. هذا ما جنت يداك. كلنا شريك في الجريمة. بعضنا استدرك الوضع، لكن بعد فوات الأوان. ربما تكون هذه الضربة القاضية والكفيلة بإيقاظ كل من كان نائماً. وربما تكون الضربة الكفيلة بإسقاط كل من كان متيقّظاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها