الأربعاء 2022/06/15

آخر تحديث: 15:43 (بيروت)

مجرّة برج الجوزاء

الأربعاء 2022/06/15
مجرّة برج الجوزاء
increase حجم الخط decrease
تأثّرتُ في حياتي، كأي إنسان آخر، بعدد من النصوص التي قرأتها. كانت هذه النصوص تحفر في داخليتي، في المخيلة قبل الذاكرة، في الإحساس قبل الفهم، لكن بعضها كان له الوقع الأكبر والأخطر في كينونتي.

أحد هذه النصوص كان للروائي الأردني مؤنس الرزاز، بعنوان "اعترافات" (أوراق من سيرة ذاتية)، نُشر في جريدة "السفير" اللبنانية المحتجبة الآن، وما زلت أحتفظ بصورة عن قصاصة الصفحة، لكن للأسف من دون تاريخ النشر. يستهل الرزاز هذا النص بجملة "محسوب على الأقلية في عالمي الخارجي، وأنتمي إلى الأجانب في عالمي الجواني. أنا أجنبي عني وأقلية أغلبية بعضي".

جملة واحدة مستغرَبة تختصر المشهد الممتد في رحلة الذات ومنعطفاتها، خلال الحقبة الزمنية التي نعيشها. هكذا بكل سهولة، يمكن تعميم المسألة خارجيًا لتتم قراءتها على هذا النحو، وداخليًا لتتم قراءتها في جوّانيات منزلقة.

إلا أن قراءة أخرى تتبادر إلى الذهن خلال التوغّل في سراديب النص، وقبل أن نصل إلى خاتمته، وهي التي استرعت انتباهي واهتمامي في حينه، من دون أي إنتباه. قراءة جوزائية، نعم، جوزائية بنسبتها إلى برج الجوزاء، بكل ما فيه من فضاء، بكل ما فيه من تناقضات، بكل ما يحويه من فراغات تسمح للروح بالانتقال بين أطراف مترامية. قراءة جوزائية لنص جوزائي تضمر كمية كبيرة من التناقضات والانتقالات العنيفة بين ضفتين. جوانية تطمح للخروج، وخارج يطمح للتقوقع. "أنا" متزامنة في الهنا والهناك في آن. "أنا" متنقلة بثبات، وثبات في حالة انتقال أنوّية دائمة.

هي رحلة مجابهة معلنة ومفتوحة مع كل محاولات المتآمرين من أفراد الأبراج الأخرى. تآمرهم لناحية تأويل حالتنا بقراءة مَرَضيّة ترضي عدم قدرتهم على مسايرتنا، قراءة مَرَضيّة تشبع قدرتهم على البطء واحتمالهم للمسافات المتقلصة. إنها حاجتهم المُلحّة والموقوفة على صعوبة انتقالهم معنا، في هذه الرحلة الأبدية التي لا نقطة انطلاق تحكمها، ولا نقطة نهاية تريحها. إننا جوزائيون متنقلون بين أمكنة لا نعرفها، منطلقون في أنفس لا تُعدّ ولا تحصى من داخليتنا، من دون أي طمع في أي نهاية. هذه الرحلة الأبدية التي ندور فيها كل ساعة وأخرى، وأحيانًا في ساعة واحدة. هذا الشروع والإقلاع المستمر بلا هبوط.

لقد كان للأمر أثر متعب في نفسي بادئ ذي بدء. كنت أحسب أنني مصاب بلعنة كونية من رحلة الترحال الأبدية تلك. كنت أحسب أن هناك خطباً ما في شخصي لا أريده أن يستمر، بل أحاول كبته كي لا يظهر على حقيقته ويبعد الباحثين عن السكون والثبات ممّن حولي. كان هذا قبل شروع رحلة التصالح مع الذات، قبل تقبّل اختلافي بما يحويه من كونٍ شاسعٍ. قبل ابتسامة تعلق على شفاهي حين أدرك جيدًا أن حالة الغضب التي أنا فيها الآن ستنقلب ضدها بعد لحظات، وبالاقتناع نفسه. فكَونُنا، نحن الجوزائيين، هو الكون الذي يحوي كل التناقضات والاحتمالات.

نحن سكّان هذا البرج الأصيلين، الذين يتسع الكون ليصبح واحة لنا، نحدّثكم. نحن الذين نتقبلكم كلكم بوصفكم ضيوفًا لهم أثر بالكاد يَظهر في عالمنا. ضيوفٌ في ظل ثقيل أنتم، في معظم الأحيان. ضيوفٌ باتت طاقتنا على تقبّل روتينكم ودوائركم المغلقة على المحك، إذ صرفنا كل ما في جعبتنا من تسامح مع أغلالكم الأرضية.

نحن أفراد هذا البرج إذ نعود إلى الرزاز من جديد، وهو يهمّ بإنهاء نصه بفقرة طويلة لا تقّل أهمية عن جملة البداية. بل خاتمة تفتح أفق كل بداية ونهاية، خاتمة تعيدنا إلى رشدنا غير الرشيد. خاتمة في فقرة تقول:

"الساعة السابعة والستون تحت الصفر.
في جمهوريتي الجوانية جماهير لا جمهور. قبائل لا قبيلة. أقليات مشظاة لا أغلبية.
في أزقتي الخلفية تقدميون يعانون رغبات ملحّة في الانتحار. فاشيون لا يتورعون عن المحبة.
محاربون محطمون يتأبون الاستسلام. متصوفون أوغلوا في الشطح وغالوا في الغشوة.
وعشاق. عشاق محترفون... يفضلون الحرية على الحب إذا ما اشتبكا بالسلاح الأبيض من خلية إلى خلية ومن جسد إلى جسد...
أنا جمهورية؟ بل مجرة من جمهوريات في حال صراع".

بالفعل، إنها نصوص في نص، إنها ذوات في ذات، قدرة عجيبة على التعبير عن فسيح فضائنا بكمية ضئيلة من الكلمات الصادرة، وباستهجان، عن الرزاز وهو أحد أفراد برج القوس الناري هذا. دوائر فلكية يمكن العمل على تحديدها من دون المس بقدرتها على التوسّع.

بالفعل، نحن أفراد برج الجوزاء، جمهوريات، دول، لكننا لسنا أوطاناً. لسنا مفاهيم متعينة كحالة شاذة في لحظات اللاتعيّن، لكننا فوق هذه وتلك، لسنا مفاهيم مائعة، بل نحن سيلان جارف. نحن كَونٌ ممتد من الإمكانات غير المنطقية، ونحن كينونة اللامنطق. تفاعل التحقق الأبدي بين ما نريده في اللحظة التي نريده بها، سرعان ما ينقلب ضدًا. نحن أصعب كائنات العلاقات الثابتة، وتلك التي تطمح إلى التماهي. لسنا جماعة متماهية، ولا نطمح لذلك. بل رغبتنا في التخلص من جوزائيتنا، من كينونتنا، تلحّ علينا أحيانًا لنتقبّل قبولكم، لنلاقي بعض قدرتكم على فتح الآفاق أمام تنوعنا، للتنازل الذي نقدّمه ونحن نتقبّل أنفسنا بناءً على تقبّلكم المرير هذا!

كل هذه القسوة التي نسمعها تتردد بين قهقهات تنظر إلى الأمر بوصفه نكتة، وهو نكتة سمجة. إنها سماجة في نكتة مقعّرة في كَونٍ يحارب أصله المختلف، كَون يفسح المجال لبعض الثبات بين انتقالَين. فنحن الجوازئيين، الجدل ذاته، الديالكتيك الأعلى متجسدًا في كينونة، صراع بين صراعات متصارعة. نحن روح هذه المجرة، ما إن نتصالح مع اختلافنا ولا تعيننا. نحن الاختلاف والتناقض، والمسافة الفاصلة التي تصارعون جاهدين لتحجزوا لكم مكانًا للعيش فيها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها