الثلاثاء 2021/12/07

آخر تحديث: 16:41 (بيروت)

عَلَم شادي

الثلاثاء 2021/12/07
عَلَم شادي
شادي الحاج علي يطوف الملعب العراقي بالعلَم اللبناني
increase حجم الخط decrease
حمل العَلَم وركض به في الملعب. تداولوا الفيديو وقالوا إنه أجمل ما تابعوا في هذه المباراة. ألم يخطئوا في ذلك؟
ربما قصدوا الأجمل منذ الانهيار. حتى لو كان هذا مقصدهم. أخطأوا.
هذه اللقطة هي أفضح ما قيل حتى الآن عن خسارتنا لبنان.
شادي الحاج محمد، طاف بالعلَم، في الملعب العراقي، رغم خسارة منتخبه. كأنه طاف يائسًا، معلنًا أن لا وطن له بعد الآن.
ونحن أحببنا هذا الفعل لأننا نحتاج لحظة إعلان الخسارة. الفاجعة لا تكون صمتًا. وسكوتنا عنها ليس إلا آلية بالية من آليات الإنكار.


لم نحظَ بعد بهذه اللحظة التي نصرخ فيها موتًا معلنًا، منذ زمن نؤجل اعترافنا به. لم نطلق هذا الصراخ كعواء في هواء جاف لا يشقه سوى نحيبنا. لم نحظَ بلحظة القَطع.
حمل العلًم عنا ومدَّ ذراعيه على جانبيه، وقال لا نريد أن نُمحَى. كلّنا فرَدنا أيدينا معه.
كلنا هذا الفرد الهش الذي لا يملك بعد الخسارة سوى حلم العودة إلى بلد طُرد منه وهو فيه، ومُنع من العودة إليه وهو ساكن في عقله وروحه.
البكاء جيد، لكنه لا يكفي. هتافات من بغداد وغيرها من عواصم عربية تقول لبنان في القلب، طرية ودافئة ربما… تصل إلى مسام الروح فتُشعرنا أننا لم نُنس.. ليس بعد.
ثوان قليلة من النشيد نسمعها، فنتمزق ولا نعي لماذا؟ ألم نكفر سابقًا بهذا الشعور الساذج؟
نلتفت حولنا، هل شاهدنا أحد ما ونحن نغص بالألم؟ لا أحد.
هذا أمر حسن، الخجل فوق الألم أمر لا طاقة لنا عليه الآن.
يبدو لبنان الفكرةَ المتخيلة أكثر من أي وقت مضى. نسيج من سعي إلى البلد، إلى الوطن، إلى البيت، نتدثر به فيما نكمل مسارًا يقودنا من أنفنا إلى حيث ما لا نعرف ولا نريد.
فنغمض عيوننا لأننا لا نملك جرأة التقصي عن نهايات هذا المسار. نقول الغبار كثيف، ربما إن توقفنا عن رفس الأرض تحت أقدامنا، تنقشع الرؤية. فلنهدأ.
نستكين إذ نشعر بفقدان هذا المتخيل. ننعي انسلاخنا قسرًا عنه. نهيم في الملاعب والمنصات، بالعَلَم وهولوغرام فيروز، ونبكي.
في الداخل عيونهم دامية. وفي الخارج أيضًا. وسقط قمع كان يمارسه القابضون على قهرهم في الداخل تجاه أولئك الذين غالبتهم الجرأة مرات، وتنطحوا لانتقاد أو تحفيز أو استنكار بفوقية خائبة.
لا الآخرون عادت تلك العبارة لتقفز من فمهم "إنتوا كيف عايشين هيك؟!"، ولا الأوّلون عادوا ليقمعوا بمطرقة الجملة المألوفة "اللي برا ما ينظّر علينا". تساوى العالَمان. لم يعد الداخل الوطن، ولا الخارج الجنة.
الخارج ليس الاغتراب، ليس "الانتشار"، ليس "هجرة الأدمغة". إنه تلاحم الملجأ والمنفى، وضياع طريق العودة.
قد يحمل ما وراء الكون أو "ميتافيرس" المنشود، حلاً. الوهم بأننا هناك سنكون ما نريد وسنقيم سياقاتنا وأحياءنا ونشكل ذكريات جديدة قد تحيي شرايين تصلّبت من الحسرة.
هناك قد يكون لهبوط "بيتكوين" معنى آخر، ولن نحسب حياتنا بعدد السنوات التي لم نزر خلالها البلد. لا أرتعب كثيرًا من أن جسدي سيكون في مكان وعقلي يتحرك في مكان آخر. إنها وسيلة للبقاء والاستمرار. علينا ألا نخاف ذلك. فلم يعد الحزن والمرارة والضيق الموسمي، مجرد عوارض، بل جزء أصيل من مكوننا الذاتي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها