السبت 2022/04/30

آخر تحديث: 16:19 (بيروت)

في عالم موازٍ لجمهورية تتهاوى

السبت 2022/04/30
في عالم موازٍ لجمهورية تتهاوى
increase حجم الخط decrease
- هاي!
- كيفك؟
- ساڨا؟

هنا لبنان، بلد اللغات العالمية الثلاث المحكيّة خلال يومياته، الماضية والحالية، الساقطة في الحفر نهارًا، الغارقة في الظلام ليلًا.
دولة اللا دولة، إذن، إلا في حالة واحدة فقط، أنها دون غيرها قاتلة وناهبة سكانها، مهجّرتهم بما يقارب "العدالة الاجتماعية" هذه المرة وإلى حد بعيد.
دولتي أصلًا، وعندما كانت موجودة، لم تكن مرة حاضنة أو صديقة للمهمّش أو الضعيف.. بل تحبس هذا الأخير بالذات ومن أجل أتفه الأسباب، لتعلّم بواسطته الآخرين أشكالًا من الدروس والعبر. وطبعًا، أكثر بعد، كي تشتت الأفكار والأنظار عما هو أعظم بعد، وقد عرفنا منه اختلاسات للأموال العامة وهدر الطاقات البشرية والمادية.

هكذا، رغم التوصيف المذكور أعلاه، بل بسببه تمامًا، لم يبق للطفل أحد سوى العائلة والأهل ليحموه من شرور هذه الدنيا القاسية وهذا البلد المنهار. هؤلاء وحدهم مسؤولون عن سلامة الصغار المباشرة. ولا أمر، لا أمر بالمطلق يستطيع أن يبرر تعريض حيواتهم إلى الأخطار وصولًا إلى الموت المحتّم.
ولنا كلنا كل الحق بأن نرمي بأنفسنا في الماء، إذا ما ضاقت بنا سبل العيش واستُنزف صبرنا حتى نفد. لكن جدير بنا أيضًا ألا نخشى قول كلمة "لا"، مقتضبة وصريحة، عندما يحاول اهتراء البلد أن يطاول أرواح قاصرين وقاصرات لم يكتمل بعد نموهم النفسي ولا الجسدي.

ربما، لا حكمة تبدو أكثر كلاسيكية الآن من "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها". وهي معروفة لجبران خليل جبران، المجنون المتمرد على السياسة والدين داخل بلده، الفيلسوف العالمي الذي كفر بالمجتمع… وكانت أيّامه تشبه أيامنا التي نعيشها بلا أن نحياها، فيها: هجرة وثورة، تجويع وإفقار وجراد استحضرته الطبيعة كما الكورونا.

والأرجح أن عدم توافر وسائط تكنولوجيا العصر في حينها، ولا وسائل تواصله الاجتماعي، حالت دون توثيق وتناقل المئات من الأحداث والمآسي، كما دون الإفراط في حالة أعيد التفكير في خلفيتها مؤخرًا. أعني التضامن، لا سيما الإفتراضي، وأسمح في التشكيك في أخلاقياته باطنًا، ولو بدا ظاهرًا مهيبًا كالمقدس.

أجرّب ألا أفكر في الموضوع، منذ صبيحة وقوع الحادث الأليم لزورق مَن تقلصت أحلامهم إلى حدود الفرار من الجحيم، وأتفادى الحكم ولو تلميحًا على ظروف مواطنيّ الذين سبقوني إلى الارتطام، ولا أدري ماذا كنت سأفعل لو كنت في مكان أحدهم.
إضافة إلى أن سردية الناجين، القائلة بأن خفر سواحل المدينة الأفقر على الحوض المتوسط- في حين ينتمي إليها أغنى أغنياء العالم- قد تقصد كسر الزورق مع تعريضه للإغراق، توقظ أسئلة من الماضي القريب: أليس النظام نفسه الذي فقأ عيون الثوار على فساده، بدد ودائع متوسطي الحال وكبار السن، زمّ الرغيف، قطع الدواء، الماء، الكهرباء، الهواء…
قهرًا للقهر نطقت جدران بيروت: "فجرتونا حرفيًا"!

أخفف عن نفسي بابتداع نكات سوداء، أستمدها عفويًا من الأغاني التي تعد بالعز والنجاة في بلد آمن. أبدل مثلًا كلمات أغنية لفيروز، فيطلع معي: "بدن يكفوا عللي بقيوا". نعم، أعلم، أدرك، أعرف ويملأني اليقين بأنها الحقيقة الوحيدة للمرحلة الأشد مرارة والآتية لا محالة. وأرجو ألا يغدو التنكيل بنا حُجّة لأخذ قرارات تحتمل الموت، عن أطفال لا يستشفون المخاطر المحدقة بهم.

وأبقى أفكر وأفكر، بين شهيق وزفير، أن كتابة بوست تحدد ماذا كانت أحلام بنت أو صبي قُتلا، هي مُصادرة لخيالاتهما معًا، أن تصوير حاجاتهما بعدما فقدا الروح هو تعدٍّ على خصوصياتهم، نشر فيديوهات لهم مع كاپشين "مؤثر" وهم في أوج حالات الصدمة والذهول لن يساهم إلا في تعميق أوجاع الذاكرة مستقبلًا…
كله من أجل تمظهر لحظوي بالإنسانية، في عالم وهمي موازٍ لجمهورية تتهاوى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها