الإثنين 2020/10/05

آخر تحديث: 16:22 (بيروت)

الهروب من المدرسة

الإثنين 2020/10/05
الهروب من المدرسة
"نمر" سالفادور دالي
increase حجم الخط decrease
"رحلت الغابات بعيداً من النمر السجين في قفص..." حدث هذا في بداية قصة لزكريا تامر، وحدث أيضاً منذ نصف قرن تقريباً، لكني لم أكن بعد... 

لَنُسرّع الزمن. خمسة وعشرون عاماً، حسناً سأقف هنا. معلمة التاريخ في إحدى مدارس السويداء السورية، تعيد السؤال: من منكن لا تعجبها طريقتي في التدريس؟

كان ذلك زمن الصمت والخوف، ووحدها يدي الصغيرة ارتفعت في فضاء صامت، وأنفاس مكتومة تترقب نتيجة الشكوى التي قدمناها كلنا، كل التلميذات، لإدارة المدرسة. وها هي مجدداً تقرأ التاريخ قراءة، تنتصر رَغم ضَعفها على إرادة مسلوبة، ونحن نكتب مطيعات وصامتات التاريخَ الممسوخ الذي فُرض علينا تَعلمه وحِفظه عن ظهر قلب.

قبل خمسة أعوام، كان يوم الجمعة...
بدأ أحد مهربي البنزين، وهو "لص سابق" ويعرفه السكان جميعاً معرفة جيدة، بإطلاق النار وبكثافة مرعبة أمام البناء حيث نقطن. لم تكن تلك المرة الأولى، وكعادتهم اختبأ الجيران خوفاً منه وليس من الرصاص. كانوا يراقبون من النوافذ، من خلف الستائر. بكاء أطفالي ورائحة الخوف والضعف والتعفن المنبعثة في الهواء، جعلتني أصرخ في وجهه بصوت لا يشبه صوتي وبجُمل سريعة مترابطة، أنا التي بالكاد أستطيع أحياناً إكمال جملة واضحة. كنت أرتجف وأغلقت النافذة بسرعة كي لا أسمع تهديده، المذهل أنه توقف حينها. أطلق الكثير من السباب، كما قال لي الجيران لاحقاً، لكنه لم يطلق بعدها رصاصة واحدة.

لِنسرّع الزمن أكثر... حسناً يكفي، لنقف هنا. قبل إسبوعين فقط...
كل تلك الدعوات والكلام والخوف والتهديد، رغم العجز عن تحقيق أدنى الشروط الصحية من أجل عودة آمنة لأطفالنا إلى مدارسهم. كل ذلك الكلام الذي امتلأ به الفضاء الإفتراضي، كان مجرد هراء وأكاذيب. وهاهم الأطفال مستعدون وجاهزون لدخول الصفوف، عدا أطفالي طبعاً. تسألني معلّمة التقيتها صدفة بعد إنتهاء الدوام: لماذا لا ترسلين أولادك للمدرسة؟!!!

لا كمامات ولا تعقيم ولا تباعد، الحمّامات المدرسية كما هي منذ عشرات السنين، روائحها تُجبرك ألا تقترب ولا تدخل، وألا تنظر حتى لا تصاب بالإقياء. حنفيتان فقط لأربعمئة طفل تقريباً، ومشرفتان تنهمكان في أحاديث جانبية وسط هذا المشهد السوريالي. أما الكتب المدرسية، فمُمزقة مُستعملة ومشوهة، لا ورق للطباعة. هذا ما قاله المسؤول عن الكتب المدرسية.

أسأل نفسي وأنا في رحلة البحث عن الكتب المفقودة، ألم يحن الوقت بعد لنُحدث ثغرة صغيرة في هذا الجدار الذي يعلو كل يوم ويزداد ثخانة؟

أقف تحت شجرة لألتقط أنفاسي، ولأنتظر سيارة تاكسي لن تأتي، لأن الجميع ينتظر، ينتظر لأيام أن يملأ خزان سيارته ببضعة ليترات من البنزين، الجميع ينتظر الكهرباء والماء، الغاز والمازوت، الرز والسكر والخبز، وينتظر الحياة نفسها التي لم نعشها بعد.

أبتعد عن مياه الصرف الصحي التي تسيل في كل الطرق، وأتساءل، ما الذي ينبغي تحمّله بعد؟
وإذا كنت سأتمرد على هذا العقل الجمعي الجبان والمنافق والأعمى، أنا وعشرات ومئات الأشخاص فهل نكفي لإحداث فتحة أمل صغيرة لنرى من خلالها الضوء. رُبما بضعة أيام من مقاطعة العودة للمدرسى، كانت كفيلة بإحداث تغيير مناسب، بضعة أيام، ورُبما بضعة أسابيع، لكننا سنكسب ولو جولة صغيرة لصالحنا وسيربح أطفالنا، وربما نسترد جزءاً من كرامتنا المهدورة، ومن إنسانيتنا.

لنعُد بضعة أشهر للوراء...ترتفع الأسعار أضعافاً، يحاصرنا شبح الجوع، ولا يخرج سوى عشرات الأشخاص للاحتجاج، والثغرة التي يحدثونها بصراخهم، يَسدها البقية، البقية الجائعون أيضاً، بل الأكثر جوعاً وخوفاً. يتم إسكات أولئك العُصاة ويعم الصمت مجدداً.

اليوم صباحاً، دخل مسلحون المدرسة، مدرسة أطفالي الإبتدائية، وأطلقوا الرصاص لأن الرجل الذي يلاحقونه وينوون اختطافه كرهينة اختبأ بين الطلاب وأثار بينهم عاصفة من الذعر والخوف والقلق والبكاء ستسكن فيهم طويلاً. والمسؤول عن كل هذا العبث يقف مراقباً ومتفرجاً ورُبما ضاحكاً.

أرفع صوتي وأنا أنظر لملابس المدرسة المعلقة، أرفعه ليتمكن أطفالي من سماع النهاية، نهاية القصة: "وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً والقفص مدينة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها