السبت 2022/11/19

آخر تحديث: 18:05 (بيروت)

ما يجوب في الرحم

السبت 2022/11/19
ما يجوب في الرحم
لوحة فريدا كالو "الشمس والحياة" (1947)
increase حجم الخط decrease
أعاني من علّة في بطانة رحمي. ليست سرّاً أفشيه بكتابة مدوّنة. لأن حالي، كحال امرأة من أصل ثلاث نساء، تعاني ما أعانيه، من دون أن تدري.

وما هو الإدراك أصلاً؟ ماذا نعرف عما نعرف؟ ماذا يجول داخل أحشائنا، من أشياء، وعلل، ومسببات؟ لا أطباء يجيبون. لا أطباء يكترثون. فهي علّة غير مميتة. وهذا جلّ ما يهم. ألا نموت فزيولوجيّاً. وكأن الموت سخيف لدرجة فزيولوجية. لا شيء عميقاً في البيولوجيا. الموت السريري هو ما يحتم على الأطباء عملية الإنقاذ. ومَن ينقذنا من موت آخر، موت لا علاقة له بالفزيولوجيا، بل بكل ما هو خارجها؟ لا أحد.

لا مبالغة في إصراري على القول بأنه لا إنقاذ لمن تعاني التهاب بطانة الرحم endometriosis.

اكتشفت الأمر منذ خمسة عشر عاماً. إصراري أجبر الطبيب على اجراء عملية لاكتشاف علّة. إصرار الألم. الألم لا مهاودة معه. ولا وسيط. لا يفهم سوى بالصراخ. وبالصراخ يعبّر عن نفسه، لغة بدائية لا بديل منها. لا ترجمات لغوية للألم. لغته واحدة، عابرة للقارات، وعصرانية الدول، ويسار ويمين، وشرق وغرب.

إن أرادت البشرية أن تجتمع على أمر ما، ويحل السلام العالمي، فهي ستجتمع حتماً على الألم. الجسدي. الألم الوجودي داخل البؤر الجلدية- العصبية.

ألم الحيض غالباً ما يكون "طبيعياً". لن أسترسل هنا في معضلة الطبيعي وغير الطبيعي. وكأن هناك مَن وضع مقياساً للألم. حين يُحتمل، فهو طبيعي، وحين لا يُحتمل، فهو خارج عن المألوف. ألمي كان خارجاً عن المألوف.

أذكر حين كنت أسقط أرضاً، أتأوّه. كنت أطلب من أخي الصغير أن يركض ويقفز بكل قوّته على ظهري. أذكر بأني كنت أغرس أظافري في جِلد بطني، محاولة أن أقتلع الألم من أساسه، من أحشائي.

أذكر أيضاً كلمات. كلمات يقع صداها كوقع الماء على الحجر. كلمات تفيد جميعها بأن المرأة تعاني حين تحيض. كل نساء الأرض يعانين. وهذا من شيم الطبيعة. وهذا يعني أن الطبيعة أسقطت على المرأة، حكماً بالإعدام، أو أحكاماً متعددة بالإعدام. الطبيعة شريرة. خلقت الألم لصيقاً بالمرأة. أوديبية، هذه الطبيعة. تحِب سرّاً، وتُحَبّ سراًّ، من الولد.

لسبب أو لآخر، تقرر بضع خلايا أن تهاجر بطانة الرحم. هكذا، من دون أن تعطي تبريراً، كبجعة سوداء قررت بأنها لا تنتمي لمجموعة البجع الأبيض. تخرج لاستكشاف أرض الميعاد. أراضٍ جمّة حولها: المبيض، عنق الرحم، الرئة، القفص الصدري. وحين تقرر الاستيطان في مكان ما، تباشر في التزاوج. حالها كحال البشر الغزاة: يذرعون ذريّتهم للاستلاء على الأراضي. الأطفال هم العملة في أي تجارة.

خلاياي قررت أن تسكن المبيض. وأن تجعل منه المكان الموعود الذي ذُكر في كتبها المقدسة. وتشرع في التغذي منه. ببساطة، تأكله. ككل عدو يغزو ويحرق الأرض التي يمرّ بها. خلايا رحمي تحرق مبيضي. تدميه. تقتله. تشرب دماءه. وتموت حين يموت.

غالبية النساء يعانين بصمت الجاهل. أي أنهن يعانين من الطبيعة التي قيل لهن بأنها فضّلت الأخ عليهن. وأنزلت بهن لعناتها. والأطباء في معظمهم لا يكترثون. فالطب هو علاقة المال بالمرض. والتهاب بطانة الرحم، لا يدرّ الربح على أحد.

لا أبحاث. ولا خطاب. ولا توعية. لا شيء سوى الطبيعة التي قررت بأن واحدة من ثلاث نساء، عليها أن تتألم، وأن تفقد، شيئاً فشيئاً، قدرتها على الإنجاب.

قررت عدم الإنجاب قبل أن أسارع لتشخيص علّتي. وحين علمت بما بي، فرحت. لقد كنت أذكى من الطبيعة. أذكى من الوقوع ضحية الأم العاقر. على الأقل، منعت نفسي قبل أن يمنعني جسدي. فأنا لا أحب الطبيعة التي تفرّق بين أبنائها.

ملاحظة: لم أُجرِ أي تحليل طبي لأتكأد بأني لا أستطيع الإنجاب. لعلّني أستطيع. وهنا، تكمن الإثارة كلها.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب