الجمعة 2022/06/24

آخر تحديث: 17:09 (بيروت)

حملات التوعية.. ريشة في الهواء

الجمعة 2022/06/24
حملات التوعية.. ريشة في الهواء
الطالبة الأردنية إيمان ارشيد قُتلت رمياً بالرصاص في حرم جامعتها
increase حجم الخط decrease
قُتلت امرأة. خبر من هنا وصيحات من هناك، وانتهينا. تغرق هي في دمائها، ونغرق نحن في تقصي تفاصيل الجريمة، إلى أن نتبين أنها مكررة وغير مشوّقة.

مهلًا... لم تعد تثيرنا طرق القتل؟ ليست متنوعة بما يكفي لإرضاء عطشنا للإثارة؟ ملَلنا من التعنيف المنتظم والضرب المبرح المؤدي للوفاة؟ ماذا عن الذبح؟ هل أصبح أسطوانة مكررة أيضًا؟ ربما... فجريمة قتل المصرية نيرة أشرف، في المنصورة، حيث نحرها شاب معروف بالاسم والعنوان، وسارعت جهات إلى التلويح بتفوقه العلمي، وبـ"هدوء" منزله الذي لا يُسمع لأفراده صوت إلا حينما يضرب أمه أو أخته، ليست الأولى. لو تصفحتَ سريعًا المواقع الإخبارية، ستقع عينك على خبر ذبح صبية على يد شقيقها في الفيّوم- مصر قبل أيام من جريمة المنصورة.

فَقَد الذبحُ وسيلةً لقتل النساء جِدَّتَه.

وربما تطالعك أخبار من الأردن عن القتل طعنًا أو ضربًا أو بطلقات نارية، آخرها مقتل إيمان إرشيد، رميًا بالرصاص في حرم جامعتها. سبق ذلك، قتل رجل لزوجته أمّ أولادهما الأربعة، كُشفت جريمته رغم محاولته إخفاء الجثة.

غزة ورام الله و"البلاد" تأبى أن تكون بعيدة من العنف مظلّل العواصمَ العربية. سمر كلاسنة من حيفا، اسم جديد دُفع به قبل نحو أسبوعين إلى مقدمة لائحة "الموت للنساء... مجاناً".

في لبنان، هذه اللائحة تزداد طولًا. يضرب اليأس عميقاً، ومن لا تموت ضربًا، أو تشارف على الموت كما كان حال تهاني حرب في سحمر- البقاع الغربي، أو طعنًا، يُرمى بها إلى خيارات عنيفة يتساوى معها القتل وأخذ النفس بذات اليد كما فعلت ضياء الغول. ضياء تركت رسالة باتت مستندًا للتحقيق، تقول العائلة إنها لم تقرأها.

بداهةً، الجريمة لن تتوقف. لكن قتل النساء المجاني بلا رادع أو عقاب، كيف يتوقف؟! ماذا بعد ضرب الكف بالكفّ؟ ما الذي لم يُجرَّب بعد؟ سارت النساء إلى أن حفَت أقدامهن احتجاجًا. قلن "طالعات" وقلن "كفى". وماذا بعد؟...

لم تتوانَ النساء في العديد من الدول العربية عن مراكمة الاعتراض والتوعية خلال العقدين الماضيين، وشهدنا في فترات متقطعة حملات إعلامية مواكِبة. قد لا يعيب أبدًا هذه التحركات تعدد جبهاتها، فلنَسِمَها بالتنوع بدلًا من التشتت... لكن هذه الجهود والمحاولات المستمرة للتصدي ولفضح التحرش، والجذب باتجاه الدفع بالنساء إلى مواقع قيادية، مرّة عن كفاءة ومرّة عن حجز موقع لإثبات موقف، والتي يفترض أن تصب كلها في خانة رفع الظلم والإجحاف عن المرأة، ما زالت مُجهَضة. الأسباب عديدة وراء هذا السقوط، أمام تعاظم سهولة قتل النساء، منها مزاجية ووحدانية السعي.

الجريمة سؤال جوابه العقاب. والإجابة في كل الدول العربية حيث يقتل رجل امرأة ويمضي، غالبًا معروفة: الإفلات من العقاب. ما لم يكن هناك قانون واضح وصارم ومتماسك لا يخفي بنودًا رخوة، فإن موسمية الحملات الإعلامية التوعوية، لا تكفي. التوعية من أجل التوعية مصيرها الإحباط حكمًا، وأحيانًا تؤدي إلى عكس مبتغاها، ما لم تُقرن بخطة عمل أو بمطلب محدد للتحرك. حملات التوعية هي في الأساس حملات تحريض على تغيير ما. إن أي حملة تستهدف المجتمع أو الرجل برسالة مفادها أنه لا يجب تعنيف النساء لأن ذلك قيميًا لا يصح، في حين أن القانون يقول له لا بأس بذلك، هي ريشة في الهواء.

نضع القانون، يُحاسب القتلة، ونرمّم سلَّم قيمنا. كم من الممارسات اليومية ما كنا لنمتنع عنها لما توحيه من تسهيل لشؤوننا، ونحن نعلم أنها قيميًا مكروهة، لولا أن هناك قانونًا يمنعنا منها؟

جنى حملة إعلامية لأشهر معدودة، مواكَبة بحلقة واحدة أو اثنتين من برامج تعالج قضايا النساء- حقوق المرأة- بأسلوب يستثير الشهوة والعنف ويطلقهما عبر الأثير، لا يشبه صحافة جادة مواكِبة بلا ملل أو كلل. ما عاد مقبولاً اختزال متابعة قضايا القتيلات في المحاكم بدمعة أمّ بين يديها صورة ابنتها في انتظار حكم نعرف أنه سيكون مخففًا. يجب أن تحضر في المادة الإعلامية المقدمة، كل أسبوع بقالب جديد، وكل يوم بلون مختلف.

جُرَّب الصِّدام مع السلطات السياسية والدينية باعتبارها الراعية لهذا العنف. وفي حين أن مواصلة هذه المواجهة مطلوبة مع السلطة، الدرع الحامي لسيف الرجال المسلّط على النساء، فإن هناك حاجة موازية لبذل جهد أكبر في "تجنيد" مناصرين جدد من المعسكر الآخر، من حاشية السلطة، قادرين على المساهمة في إسناد طارحي تغيير القوانين المجحفة. يجب ابتكار حلول لتجاوز عائق استصدار قانون يسمي هذا القتل جريمة ويذنّب ويعاقب. هكذا يصبح للنقاشات المكثفة في المدارس والجامعات وأماكن العمل، و"مشقة" الذهاب إلى القرى والأنحاء النائية، أفق ومعنى.

لا نمتلك ترف موسمية الحملات، ولا فردانية المنظمات الحقوقية النسائية، ولا نشوة مشاهدة إعلان مصور على نحو بديع... لا يكفي مقال ولا عشرة لانتزاع هذا القانون... لكن كل كلمة، وكل تحرك وكل مطلب ما لم يسخّر لهذه الغاية، فإن ما يصرف باتجاه التغيير في ذهنية المجتمع وقناعات الناس هو هباء وسقوط في القعر، في كل مرة يسيل فيها دم امرأة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها