السبت 2019/03/30

آخر تحديث: 16:15 (بيروت)

غازي كنعان "منا وجرّ"

السبت 2019/03/30
غازي كنعان "منا وجرّ"
increase حجم الخط decrease
لا تحتاج أن تكون مُعارِضاً شرساً كي تشعُرَ بالغثيان والدُوار وأنتَ تستمِع إلى ما قاله المغني علي الدّيك في برنامج "منا وجر". يكفي أن تكون سُورياً حتى تُحسَّ بالظلم القَدَري لأنك والدّيك من بلد واحد.
صحيحٌ أنّك لو كنتَ من أي بلد آخر في العالم، فسَتجِدُ من تتّفقُ معه أو تختلف، لكنّك لن تجِدَ مَن يتحدّث باسمك ويُحدّد خياراتك المصيريّة ظانّاً أنه يملكُكَ جسداً وعقلاً وروحاً، سوى في "سوريا الأسد".

إن لم تكُنْ حالتك واحدة من هذه الحالات التجانسيّة (شبّيح، منتفع، جاهل، مُتشنّج بحُكم الانتماء الأعمى)، فبالتأكيد سَتنهالُ كلماتُ الدّيك على "سُوريّتكَ" المُقيّدة إلى كرسيّ الاستجواب الدائم، كالصفعات المتتالية، ولن تعودَ قادراً على تمييز الأسوأ بين هذه الصفعات لتتحاشاها، وتَميلَ في اتجاه مُعاكس.

هذا الإحساس بثِقل حضور ذلك المغني السلطوي الأسدي على شاشة لبنانية، لم يَنبُع من رفضه لفكرة "بيع الجولان" رسمياً أو فعلياً، فهذا تفصيل قابل للنقاش رغم وضوح لعبة النظام في ما يخص استثمار قضية "الأرض المحتلة" لبقائه. 

سَماعُ تلك النبرة الاستعلائية الفارغة، والمضمون الوعظي الدوغمائي لدى علي الديك، كان كافياً لأي سوريّ لكي يتذوق حقيقةً مؤلمة مُقيمة كقُلاعٍ فموي يرافقه أينما ارتحل: "الدنيا تتغيّر وسوريا لا تتغير! العالم يَشيخ ويُستهلَك ويموت ويحيا بدلاً منه عالم آخر، أما الأسديّة بكل خوائها فلا تُستنفذ، مع أن مخزونها الضّحل غير قابل للتجدُّد أساساً".

بأسلوبٍ لا يختلف عن أي ضابط أسدي، صاحَ الديك متحدّياً "الكون" (لا يرضى بأقل من ذلك)، ومُحيطاً كلماته بهالة قُدسيّة. ولم يَكُن يَنقُص سوى أن يقوم بعدها بابتزاز سلام الزعتري في الكواليس، مُخيِّراً إياه بين احتمال وَصمِهِ بتهمة "الخيانة" و"العمالة" أو أن يدفع المعلوم!

أولى المفاجآت (أو صفعات التحِمية الخفيفة) ستُطالعكَ حين يُقابل "الديك" عبارة "النظام باع الجولان" بالتساؤل: "أيّ نظام؟". ياللهول!! حتى الحد الأدنى من تسمية الأمور بأسمائها ممنوع! لقد نسينا. في مزرعة آل الأسد ومخلوف، هناك كلمة عقائدية واحدة في مثل هذه الحالات. إنها "الدولة". ذلك المصطلح المَهيب الذي صنع منه النظام وأجهزته الدعائية أسطورة مرهوبة الجانب، لكائنٍ تَغيبُ الدلائل على وجوده المادي، وتظهَر منهُ الفروع الأمنية والجيش مع بعض الديكور الحكومي والخَدَمي.

"ما بتحكي ع دولتي..أنا ما بحكي ع دولتك"، حاولَ الديك من خلالها أن يُرسي قواعد التخاطب والنقد وِفقَ المنطق "القَبَلي" المُستخدم أساساً لتشديد القبضة القمعيّة على ما يَعتقدُ الأسد أنه يملكه (البلد والشعب) بعدما اختزلَ الوطن بمزيج من كلّ الحساسيات المتوافرة (العِرض، الشرف، الأم، الأب، الكرامة، الأرض، الجيش... إلى جانب القائد طبعاً). بهذا المعنى أصبحَ مُباحاً ومبرّراً تسوير السجن الكبير (سوريا) بأسوار الخصوصية والحساسية الدائمة لكل "غريب"، مع ضمان "احترام" الواقفين خارج الحدود لـ"الشأن الداخلي" الأسدي.

ألم يرَ لبنانيون في لغة الديك التلقينيّة الفوقيّة، شبحاً عابراً لرئيس شعبة المخابرات السورية في لبنان سابقاً، غازي كنعان؟ لا شكّ في ذلك، فآخِر ما كانوا ينتظرونه (ولا تسوّغه معايير الترفيه البرامجي وأصول الاستضافة) هو أن يأتي مَن يُعيدهم إلى تلك الحقبة ولو للحظات.

وليس اللبناني وحده من يَكره عودة ذلك الشبح ولو رمزيّاً، فالسوري ما زال يدفع ثمن ما أسّس له كنعان بين العامين 1982 وحتى 2001 حين كان متحكّماً بشؤون وقرارات "الشقيق الأصغر"، وصاحب الكلمة النهائية فيه مستعيناً بنفوذ كبير وبأساليب البلطجة والبطش.

لقد أعاد الديك، في ظهوره التلفزيوني وما تلاه، سقاية تلك الصورة الذهنية عن "السوري القوي" الذي يكتسب قدرته على التأثير من فَرضه لرأي واحد يَسحق التعددية، ومن كونه "أزعر" وحسبْ، ويمثّل حالة سلطوية مُعلنة أو مغلّفة بدبلوماسية، وتعتمد مبدأ القوة الخام، المقتصرة على إمكانية إلحاق الأذى بالغير، فعلاً أو قولاً، أو على الأقل بإفشال حلقة من برنامج بالاحتجاج والانسحاب!

إنها بلد مؤلفة من عنصرين إذاً: أبناء سلطة "زعران" وشعب "درويش". هذه الخلاصة الكارثية التي بنَتْ صورة سوريا المُشوّهة في عيون اللبنانيين أيام كنعان، حاول الديك (قاصداً أو غير قاصد) ترميمها، حتى أنه صرّح عقب حلقة "منا وجر" لإحدى الإذاعات، قائلاً باسم السوريين: "الله لا يعلّق حدا معنا نحنا.. ماننا قليلين!" في إصرار واضح على ادّعاء تمثيل "الشعب"، وبالطريقة التي يريدها هو والأجهزة المخابراتية والإعلامية التي تقف خلفه.

في زمَن العُقم العسكري والسياسي، علينا أن نتوقع انكفاء أصحاب الأدوار الفعلية وترك الساحة لواجهات فنيّة لتتولى الردّ على "العدو"، وتنفيس شحنات الغضب المكبوت لدى الجمهور (بفعل العجز وفقدان الأمل) في بيئة افتراضية. وعليه يصبح مفهوماً توظيف الإعلام اللبناني لهذه العوامل لصالحه، وخَوض حسابات التنافس والتسويق وكسب الجمهور. 

وليس طارئاً أو مستجداً مَنحُ المنابر للديك وأمثاله في لبنان، وهو ما وصَل أحياناً إلى درجة مُجحفة من اختزال التراث "الشعبي" السوري المتنوّع وووجوهه وأعلامه في نموذج "الريفي الساذج" ذي السجيّة غير المنضبطة التي تسلّي الجمهور. غير أنّ ما يتمناه أي إنسان شرق أوسطي عاقل، هو أن تقف الأمور عند هذا الحدّ، وألا يتمّ تحويل لبنان بشكل نهائي إلى مكبّ نفايات فكرية إيديولوجية أسديّة وخمينية.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها