الأربعاء 2019/03/13

آخر تحديث: 14:32 (بيروت)

طعامي، لذّتي، وذنوبي

الأربعاء 2019/03/13
طعامي، لذّتي، وذنوبي
في يومها الأول كأمّ، تعرفت ياسمين على الجوهر الحقيقي للأمومة: الإحساس الدائم بالذنب
increase حجم الخط decrease
بكت ياسمين لأنها لم تستطع إرضاع ابنتنا، سينا، في اليوم الأول بعد ولادتها. بكت سينا أيضاً. ومحبوساً مع الاثنتين في غرفتنا في المستشفى، لم أعرف ماذا أفعل سوى الاستغاثة بالممرضات.

حضرت إحداهن وحاولت مساعدة ياسمين في الرضاعة، لكن بلا فائدة. لم يخرج الحليب، واستمر بكاء الرضيعة. اقترحت الممرضة إرضاع سينا حليباً جاهزاً مصمماً خصيصاً لحديثي الولادة، فزاد بكاء ياسمين، لأنها شعرت بالتقصير والعجز عن إرضاع وليدتها.

في يومها الأول كأمّ، تعرفت ياسمين على الجوهر الحقيقي للأمومة: الإحساس الدائم بالذنب.
طلبت مني الممرضة التوقيع على أوراق قانونية وإجرائية تؤكد موافقتنا على تقديم الحليب الصناعي لرضيعتنا الجائعة. فلكي تتدخل المستشفى في الرابطة الغذائية بين الرضيع والأم، تحتاج لموافقة الأم وهي في كامل قواها العقلية، وإلا اعتُبر هذا التدخل جريمة. بقوة البيولوجيا والقانون الحديث، تتحمل الأم وحدها مسؤولية إطعام الرضيع.

بعد أيام، جرى الحليب في صدر "ياسمين"، وفي كل مرة تُرضع ياسمين صغيرتنا، يُشرق وجهها بابتسامة السعادة رغم آلام الجسد. تحاول شرح إحساسها لكنها تعجز عن التعبير بالكلمات. تتحدث عن طاقة وشيء ما يمتد من داخلها مع الحليب إلى داخل سينا. يقال إن هذه هي رابطة الأمومة.

نولد عاجزين عن تناول أي طعام، بل نشرب فقط حليب أمهاتنا. وأولى علامات النضج في نمو الطفل البشري هي قدرته على صلب رأسه عمودياً حتى يتمكن من البلع، وبالتالي حينها يمكن تقديم الطعام له. ثاني علامات النضج هي الفطام، بتوقف المولود عن الرضاعة، ينتقل من كونه رضيعاً إلى طفل.

كلما كبرنا، كلما ابتعدنا عنها. نتوقف عن الرضاعة من صدر الماما، لنأكل ما تقدمه يداها. ذائقتنا الغذائية يشكلها طعام الأمهات، نقضي سنوات مقتنعين بأن أفضل طعام هو ما تطهوه الماما. 

مهما كان مستوى طهو الأم سيئاً، فالأبناء لا يعرفون، بل يكون هذا هو الطعم الطبيعي والممتاز للطعام. 

يطلق على هذا الثقافة الأم، وهي تمتد لتشمل ليس فقط مذاق طهو الوالدة، بل تقاليد الطعام التي تعلمنا اياها الماما. ثمة أمهات يربين أولادهن على ضرورة إنهاء طبقهم بالكامل، وآخرون تربيهم أمهاتهم على ضرورة ترك جزء صغير من الطعام في الطبق. في مصر يسمون هذا نصيب القطة، لكي تتوافر فضلات طعام للقطط والكلاب التي تأكل من النفايات. 

تخبرنا الماما ما يجب أن نأكله وما لا يجب. منذ صغري، مثلاً، منعَت أمي دخول "النقانق أو السجق أو الهوت دوغ" إلى  المنزل، وطوال طفولتي حذرتنا من أكله في الشارع. 
نطيع الماما لأنها بالتأكيد تعرف معدتنا أكثر منّا. لكننا بمرور الزمن نكبر، نخرج من المنزل، نتمرد على ثقافة الأم. ونبدأ في استكشاف العالم والهوت دوغ. 

وقعت في غرام النقانق بأشكالها كافة مع أول قضمة، وكان عمري 19 عاماً. عدت لأمي وسألتها لماذا منعت عنا "الهوت دوغ". أخبرتني أنها حينما كانت صغيرة توقفت مرة أمام محل يبيع سندويشات السجق، ولسبب ما ضايقتها رائحة السجق على النار حتى أنها فقدت وعيها، ومن يومها وهي تكره السجق وكل ما يتعلق به. لم يكن المنع لسبب صحي إذاً، بل ذائقة شخصية للأم.

أجسادنا هي السجل الذي يوقع فيه الزمن، وهذا السجل المكوّن ظاهرياً من اللحم والدم والعظام، هو نتاج ما نأكله. الجسد وما يأكله يعكسان كل ما يشكل هويتنا.

نتولى زمام أنفسنا وإعادة تشكيل هويتنا حينما نتمرد على مطبخ الثقافة الأم. نبتعد عن مطبخ الماما، لنكتشف حقائق الحياة. 

البعض لا يتقبل مذاق الحقيقة، يرفض تناول طعام لا يعرفه ويتمسك بالذائقة التي شكلها مطبخ الأم. البعض يستقبل كل جديد بفم مفتوح، يدرك أن أكل الماما ليس أفضل طهو بالتأكيد، لكن يظل مذاق النوستالجيا في طهو الماما ولا يمكن أن تجده في أي مكان آخر.

الذائقة مثل الهوية، ليست صورة مجمدة في الثلاجة، بل تتغير نتيجة أفعال الزمن في أجسادنا. حتى سن الـ28 لم أكن أطيق تناول السلطة أو الفاكهة. أتذكر سنوات كاملة مرت عليّ من دون أن اتناول أي فاكهة من أي نوع. فجأة، مع اقتراب الثلاثين، تغيرت الذائقة نتيجة تغير احتياجات الجسد وقدراته. الآن أبحث عن السلطة، بل  يتكون بعض وجباتي بشكل كامل من السلطة والخضروات فقط.

في البداية كان الأمر نداء من مكان خفي في الجسد. تناول اللحوم والكربوهيدرات صار يجعل جسدي ثقيلاً، ويولد كسلاً وبطئاً في حركتي وتفكيري. ثم مع عبور الثلاثين، انفجرت المشاكل الصحية في جهازي الهضمى.

ذهبت للطبيب أشكو صعوبات في التبول، وآلام في الشرج. "شرخ شرجي" قال الطبيب، وهو يكتب لي وصفة مرهم مسكن ويخبرني بأن أفضل علاج هو تغيير النظام الغذائي، الابتعاد عن المعجنات، وتناول المزيد من الخضروات والفواكه.
أدركت حينها أن مرحلة جديدة من النضج والتقدم في السن قد بدأت، وهي المرحلة التي يصبح اختيارك لما تتناوله، لا بسبب ثقافتك الأم، أو ذائقتك الشخصية، بل بناء على تعليمات الطب واحتياجات جهازك الهضمي الذي سيبدأ في التداعي.

انتقلت منذ شهور للحياة في أميركا، بجهاز هضمي لا يتحمل اللحوم الوردية وملذات الطعام الأميركي بدهونه وسكّره كل يوم، لم يعد مسموحاً لي إلا بمقدار بسيط من ملذات الطعام.

أشعر بالذنب كلما غششت نظام غذائي، آكل البيتزا مستمتعاً بطعمها، مفكراً في الوقت ذاته في الألم الذي سأتحمله حينما أخرجها. وإذا تمكنت من إسكات ضميري، فطريقة عرض وتسويق الطعام هنا في أميركا مصممة أصلاً لكي تشعرك دائماً بالذنب مما تتناوله.

تدخل أي مطعم لتجد اسم الطبق، شرحاً لمكوناته، سعره، وعدد سعراته الحرارية. بدءاً من مطاعم الوجبات السريعة، وصولاً إلى المطاعم الفاخرة، كل شيء يحمل رقم السعرات الحرارية. وهكذا، حينما تختار ما تتناوله، لا تفكر في رائحة الطبق، أو مذاق الطعام، بل في عدد السعرات الحرارية التي ستدخل جسمك، وكيف ستخرجها. وإذا كان الطعام جيداً ولم تستطع أن تمنع نفسك من تناول المزيد، تظل تأكل وعدّاد السعرات الحرارية في راسك مستمر في الزيادة.

تنهي وجبتك وتحاول نسيان إحساسك بالذنب، والتمتع بدفء امتلاء المعدة، فتجد نفسك محاصراً بمقالات التوعية الغذائية، أو "بوستات" أصدقائك الذين يروجون لأنظمة غذائية مختلفة، كلها تهدف إلى إنقاص وزنك، تحت دعاوى الحفاظ على صحتك.

لم يعد للطعام مذاق، بل أصبح كالدواء تتناوله مجبراً للاستمرار في حياة بلا دهون، ولا سكّر، ولا طعم أو رائحة.

خلال يومين أو ثلاثة في الأسبوع، أطلق العنان لشهواتي الغذائية. آكل المعجنات بمختلف أنواعها، اتلذذ بتتبيل اللحم بنفسي وتناوله نصف ناضج، متسمتعاً باللون الأحمر للحمة. أطرب أذنى بصوت الزيت المقلي يحمر البطاطس وقطع الدجاج المغلفة بالدقيق والخلطة السرية. أما بقية أيام الأسبوع، فأتناول الحشائش والخضروات، مثل الأرانب. أراقب وزني، وأعاين بَولي.

أحاول الحفاظ على حد أدنى من اللياقة البدنية والصيانة الدورية للجهاز الهضمي، لا بهدف أن أحيا رشيقاً، أو أن أعيش حياة صحية طويلة، بل لأظل قادراً على التمتع بكل أنواع الطعام اللذيذ غير الصحي الى الأبد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها