السبت 2022/10/22

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

عن صمت يُلمَس ويُنظَر وغير مُثقَل بالقواعد

السبت 2022/10/22
عن صمت يُلمَس ويُنظَر وغير مُثقَل بالقواعد
لوحة بريشة رولا الحسين
increase حجم الخط decrease

صمتُّ طويلًا في فترة سابقة. صمتٌ أطول من صمتي الحالي.
ولعل هذا الصمت كان سبب عدم قدرتي على التعبير بالكلام جيدًا.

كان صمتاً اختيارياً. كنت أعرف أن المشاركة لن تعطيني ما أنتظره في المقابل، ولن تضيف إلى ما لديّ، ولن تلقى ردّ الفعل الذي يستحقه ما قد أشاركه. كأني وحدي أقدّر ما لدي من كلام فأبقيه لنفسي وأصمت. أكرره، أضيف عليه وأعدّله كأفكار ومقاطع قصيرة بلغة مختزلة كتلك التي تستخدمها السكرتيرات. وعندما أجد نفسي مضطرة للتحدث، كنت أعطي فقط خلاصة ما يجب قوله، فيكون على المستمع أن يرجع خطوات ليدرك من أين أتت خلاصتي. في رأسي كانت الأفكار تحدث بسرعة أكبر من الجُمل، وكانت هناك مسافة كبيرة بين شفتيّ وبين المكان الذي أولّد منه الكلام.

وعندما أكون برفقة أحد، كنت أقول كل شيء من دون مشاركته. أردّده في رأسي، فيظن أن ليس لدي ما أقوله. وإن كان ممّن يفهمون الصمت، سيفهم تعابير وجهي أو لمستي التي تكون خلاصة الحديث الذي دار في رأسي.

لم أتغير كثيرًا. أصاب بنوبات كلام ثم نوبات صمت.
نوبات الكلام تعطي عني انطباعاً مختلفاً عما تعطيه نوبات الصمت. أحيانًا أكسب سمعة المتحدثة، وأحياناً سمعة الصامتة، بحسب أي نوبة تصيبني.

نوبات الصمت أطول بكثير من نوبات الكلام. لأني أعرف القليل من الأشياء، ولأن أشياء قليلة تثير اهتمامي للتحدث عنها، ولأني لا أجيد ملء الصمت بالكلام، وأيضًا لأني، على ما يبدو -ولا بد من الاعتراف- مملّة.

أختزل كل ما يمكن اختزاله. أغربل كل ما يمكن غربلته. أمحو كل ما يمكن محوه. وبعدها لا يبقى إلا القليل من الكلمات، والكثير من النظرات واللمسات التي لا يتم تقبّلها من قبل الجميع كحال الكلمات، فأصبح صامتة ومملة ومريبة.

أفكر بالبُكم الذين ظننتهم يتشاركون لغة إشارة عالمية واحدة. تبيّن أن هذا الظن غير صحيح (أخبرتكم أني أعرف القليل من الأشياء). فإذا كانت لغة الإشارة مبتكرة من قبل أشخاصٍ بُكم، فهذا يعني أن لا علاقة لها باللغة المحكية، لأنه كان لا بد لهم من فهم المحكية لكي يتمكنوا من ابتكار إشارتهم التي ستكون ترجمة عنها. لكن جزءاً من لغة الإشارة مُترجم من اللغة المحكية على الأقل في صيغ مبسطة لجعل التواصل بين مستخدمي لغة الإشارة واللغة المحكية ممكناً، وطبعًا الأبجدية مُترجمة ومن خلالها تُرسم الأسماء.

لغات الإشارة الحالية مختلفة عن تلك التي استخدمها الإنسان القديم والتي سبقت الكلام. حينها، لم تكن إطلاقاً ترجمة عن المحكية، كونها سبَقتها، كوننا تواصلنا بالإشارات ومن بعدها الأصوات والكلمات، ولعل المحكية هي التي استعارت من لغة الإشارة.

أفكر في لغة البكم، فأجد أنه من الصعب إلا أن تكون أكثر اختزالاً وكثافة من المحكية. ففي لغة الإشارة، ليست الأصابع وحدها ناقلة المعنى، بل تعابير الوجه والجسم أيضاً. التواصل في لغة الإشارة ليس أحادي الأبعاد كالمحكية.

ثمة أفعال كثيرة بلا معنى لها بالنسبة إليهم، مثل فعل "سمع" و"قال" و"لمّح" و"همس"، وغيرها من الأفعال التي سيحتاجونها فقط في التواصل مع غير البُكم.

أفكر بصمت البُكم الطويل، والحوارات التي تدور في رؤوسهم خلاله. أتخيل أفكاراً على شكل إشارات أصابع وأذرع تتحرك بسرعة. في رؤوسهم، البُكم لا يسمعون أفكارهم، بل يرونها.

أود لو تكون لغة الصم ترجمة للمعنى، وليست ترجمة لمفردات بلغة محكية تحمل معنى.
المفردات في اللغات كلها ناقلة للمعنى، لكن المعنى يصبح سجينها. في حين أن المعنى أكبر من المفردة، وما هي إلا حامل له، ولا يمكن للمفردة أن تختصر المعنى. المفردة التي هي مجموع أصوات أُثقلت بالقواعد من دون أن تعني إلا ما اتُّفق على ما تعنيه.
المعنى في العيون والأيدي. المعنى في الصمت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها