الجمعة 2022/09/09

آخر تحديث: 00:13 (بيروت)

في المطبخ.. أبواب القلق والذاكرة

الجمعة 2022/09/09
في المطبخ.. أبواب القلق والذاكرة
(اللوحة: جاسيك يركا - 1952)
increase حجم الخط decrease
لا شيء يقزِّمُ القلقَ المتعاظم، أو التفكيرَ المسترسَل المرهِق، أفضل وأسرع من الحركة. نصيحة تُردَّد كثيرًا، على ما يبدو، لصوابها. تختلف الحركات رغم تشابهها... فالرقص ليس كالرياضة، والنوم غير الاستلقاء، والسباحة أبعد من السير على حفاف الموج عند الشاطئ. تجدُ رحلةُ الأفكار السارحة، حسب المساحات المكانية والزمانية، في كل منها طريقًا مختلفًا وأكثرَ من منحنى.

الطبخ، على هذا النحو، لا يُصنف في الخانة نفسها مع تناول وجبة شهية لذيذة من وجبات “comfort food”، أو الطعام الذي يعيدنا إلى دائرة من دوائر الأمان. إنه حكاية أكثر حميمية وتشابكًا. إذ يحتاج إلى وقتٍ وتنقلٍ خاطف بين السرعة والتمهل، والكثير من اليقظة والتأمل في آن معًا، وارتجال وإتقان... تناقضات الحياة كلها في غرفة ووعاء.

تُذكر عبارة "أبي يقرأ وأمي تعدُّ الطعام"، غالبًا في سياق الإشارة إلى الصورة النمطية التي ملأت صفحات كتب القراءة في صغرنا. لكني، حقيقةً، لا أذكر أنها كانت تستفزني. وكثيرون مثلي، نحن الذين عايشنا واقعًا مختلفًا.

فقد رَسَخت صورة المُعاش، في وعيي، على حساب صُور كتاب القراءة التي لا تشبهني في شيء أصلًا. فلا والدي يشبه ذلك الرجل الجالس في كرسي يختلف عن كنبتنا. ولا تتشارك تلك السيدة المبتسمة، مع أمي، لون الشعر أو التسريحة، والفارق بين ابتسامتيهما كبير، كما أن رائحة الوجبة التي تعدها السيدة المتحركة بين صفحات الكتاب، لا تصل إلى أعلى نقطة في رأسي.

ذاك المطبخ المنمنم البارد، والعائلة الموضبة على أحسن وجه، هما ورقةٌ من ألوان باهتة لا تنطق رغم الكلمات المرفقة. ولا تنجح فقاعات الانطباعات التي تعلو أحيانًا في الإيحاء بأن حياةً تدبُّ في ذلك المنزل. لا حديثَ عن المشاكل التي تُحلّ في المطبخ. تخلو مائدة الطعام من الهموم، وكأن العائلة تستثنيها من المكونات أو تجد لها علاجات سريعة. تندمل الجروح بكلمات قليلة ويأتون بعدها خفافًا للجلوس إلى الطاولة. تُحدد الأدوار بعناية لأفراد العائلة في كتاب القراءة، غير أن الواقع كان يخبرنا أن الأدوار لا تُحدد وفق الترتيبات والوصفات الاجتماعية المُعدّة سلفًا، إنما حسب الإمكانات والسمات الشخصية والقدرات الجسدية أو الحالة الصحية. التداخل هو الأساس.

الحياة لا تحدث في غرفة الجلوس فقط، بل تُخاض بين المطبخ وغرفة الجلوس وأنحاء أخرى من المنزل. تدور الأحاديث فيها، صحيح، لكن الحكايات لا تتعرى في تفاصيلها وتنساب من الأفواه أو من سراديب الذاكرة بسلاسة ولطف كما يحدث في المطبخ. هو منزلٌ قائم بذاته، للحب والأسرار، بقدر ما تكون لهما غرفة النوم. هو المكان المشترك، حيث الوقوف منفردًا لا يعني أنك مستقل أو محايد. فحتى لو كنتَ الساكنَ الوحيد في منزلك، ولو كانت زيارتك أقصر من رشفة ماء، ستحمل إلى مطبخك زمنًا ماضيًا ووقتًا تستعيده.

المطبخ هو مكان العيش، حيث الحب يُقطع ويُفرم وتُضاف إليه نكهاتٌ، زائدة عن حدّها مرات، وأقل من اللازم في مرات أخرى، والهدف دائمًا أن تكون دقيقة... إنه دولابُ الحظ السعيد لاستعادة الذات وحبِّها ولإنعاش الرغبة في إمتاع من نحب.

الطبخ امتداد الذاكرة. لا يُحصى عددُ الوصفات المتوافرة، والتي، لو طبقتها بعناية، قد تحصل بعدها على نجمة “Michelin”. مع ذلك، تجد نفسك ملاحِقًا طعمًا آمنًا تعرفه لتضيفه إلى المكونات، مُطوِّعًا طريقةَ الإعداد مع تقنيات تباغتك في تنبيهك إلى مهارات مكتسبة من الذاكرة من دون علمك. للروائح أثر لن تتسع له السطور، لكن قبلها محفزات عديدة، من كيفية تقطيع حبة بندورة تحافظ فيها على نضارتها، رغم صغر حجم القطع، إلى طريقة نزع الزفر من وعاء اللحم المسلوق ونفضه في كأس صغير من زجاج. كلها دعوات لاستعادة حديث دار في البعيد، وصورة من هناك، وحديث مفتوح من عتاب أو شوق، أو بلسمة لجرح ما زال غائرًا.

في المطبخ، يمكنك الالتفات إلى ذاتك ومداواتها. يمكنك أيضًا ترتيب ذهنك. تضع ذاكرتك، وتجاربك كلها في وعاء، وتعدُّ طبقًا لذيذًا لتذوّقِه لاحقًا متى أردت، أو تقدّمه على مائدة تشارك فيها نفوسًا، بعضها يغترب... وأخرى تقترب.

يبعدك الطبخ عن قلقك. يأخذ البخار المتصاعد من الوعاء بعضًا منه أيضًا. يكبس أزرار الارتياح الخفي. يرفع منسوب الحياة، ويكسر صمت قلوب مستوحشة. تَجلبُ إلى المائدة، ذاكرة ومشاعر وشغفًا وكثيرًا من الترقب. ترى إلى الأفواه والعيون وتخمِّنُ الانطباعات الأولى. 

تمزقت عيوننا من مقالات تخبرنا عن تقنيات التواصل لاجتناب تهلهل علاقاتنا الإنسانية، وأخرى تحفزنا على احتضان الماضي وتجنب القلق من المستقبل وعيش اللحظة. الطبخ ومشاركة الوجبة مع الآخرين، والشروع في رحلة التذوق وإيجاد المفردات الملائمة للتعبير عن مدى استمتاعهم من عدمه، تمرينٌ لذيذ وممتع... تعلُّمُه منذ الصِغر يمنحنا طوقَ نجاة في الحياة.

فالطبخ والطعام جسر التواصل بين أذهان مرتحِلة. قد يُخفي المرء امتعاضًا، ويَمَلُّ من تكرار الاعتراض نفسه، فيغرق في صمت عميق، لكنه لن يسكتَ عن ملحٍ زائد. الحياة بلا ذائقة... مريرة. نأكل كما نعيشها، منا من يأكل سريعًا وينفض نفسه عن المائدة، ومنا من ينتظر إلى حين إنهاء الجميع ما في صحونهم، ومن يأكل على مهل أو يتأمل مَن حوله وهم يأكلون ويستمتعون فيُضاعِف متعته.

الطبخُ بابٌ مفتوحٌ على الذات والذاكرة... ومشاركة الطعام مفتاحُ الكلام ومدخل الروح.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها