الجمعة 2022/03/25

آخر تحديث: 16:59 (بيروت)

علي فرزات... خفة غير محتملة

الجمعة 2022/03/25
علي فرزات... خفة غير محتملة
increase حجم الخط decrease

كنت أظن أن للفنان علي فرزات نصيب من اسم صحيفة "الدومري" التي أصدرها في العام 2001 ولم تكمل عامها الأول بسبب عقبات وضعها في طريقها النظام السوري الذي لم يحتمل جرعة النقد التي قدمتها. وكلمة "الدومري" بالتركية يُشار بها إلى مُشعل الفوانيس ليلاً من أجل طرد الظلام في زمن ما قبل اختراع الكهرباء، وكانت هذه المهنة شائعة في أزقة الحارات السورية في المدن الكبرى وخصوصاً دمشق. والمرجح أن فرزات أراد للجمهور العام أن يفهم هذا المغزى من اسم مطبوعته في سوريا التي كانت مملكة للصمت والظلام، وفي نظري فإن اختيار فرزات للدومري غير بعيد من تماهي الفنان مع هذه الرسالة، فهو مشعل المصابيح عندما تسود الظلامية والقمع. وحين تعرض فرزات لاعتداء من شبيحة النظام السوري في أيار 2011، لم يكن ذلك إلا عقاباً على ما اقترفه قلَمه كشاهد على الخراب الشامل الذي سبّبه حكم آل الأسد في سوريا.

ما قام به علي فرزات منذ أيام، من إهانة للصحافية والناشطة السياسية السورية ربى حبوش، يشبه النزول من مكان مرتفع. بل هو سقوط من القمة، لشخص يتوجب عليه أن يتحلى بأخلاق الفنانين الكبار الذين يترفعون عن الحطّ من قدر الآخرين مهما كان السبب. أن ينزل القلم نفسه الذي وقف ضد الطغيان، إلى مكان لا يليق به، يعني أن هناك أمراً يستحق التوقف أمامه طويلاً من أجل البحث عن السبب الذي أدى إلى الانحدار.

ربى حبوش سيدة شاركت في الثورة وتركت ديارها مثل ملايين السوريين، هرباً من النظام، وساهمت في العمل من خلال الائتلاف المعارض، في وقت شهدنا فيه ظاهرة عزوف المرأة السورية عن العمل السياسي لأسباب عديدة، منها التمييز والإساءات والمضايقات والتخويف، ما قوّض حق المرأة في التمتع بكامل حقوقها ودورها، والمشاركة على قدم المساواة في الحياة السياسية والعامة، وكذلك المساومة على أسس الديموقراطية وممارسة المؤسسات الديموقراطية. والسؤال هل حبوش عرضة للنقد؟ نعم، وهذا ينسحب عليها وعلى غيرها. أما أن يوجه النقد إلى حبوش، دون الائتلاف، فذلك يستهدفها كامرأة في المجال العام. وأن ينصبّ النقد على جسدها دون مواقفها، فهو تعبير عن تنمّر وعنصرية ونظرة معادية لجسد المرأة. وهذا ما يفسر الغضب، لأن فرزات أصاب المرأة السورية في صورتها الرمزية، خصوصاً أنه شخصية عامة محسوبة على جمهور المعارضة.

وحين يتأمل المرء في الحال السوري، يجد أن فرزات ليس فرداً، وتكفي نظرة إلى صفحة فايسبوك حيث الرسم الذي أراد به السخرية من جسد السيدة حبوش. فهي تحفل بتعليقات عديدة تصفق له وتبارك ما فعل، رغم أن بعض أصحابها لا يعرفون من هي السيدة المعنية. وهناك من أصابه السرور لمجرد أن حبوش عضوة قيادية في ائتلاف المعارضة السورية، واعتبر ذلك سبباً لشتمها والسخرية منه.، وهذا أمر تكرر في حالات كثيرة، جرى فيها التهجم وتوجيه الاتهامات إلى نساء ورجال يعملون في المجال العام، وتحول ذلك إلى ظاهرة لا تقتصر ممارستها على بعض الهامشيين، وإنما أصابت العدوى أوساط الناشطين والصحافيين والكتّاب والفنانين. وما قام به فرزات ليس التجاوز الأول، ويبدو أنه لن يكون الأخير، طالما أن هذه الظاهرة لم تجد من يقف في وجهها ووجه من يروج ويصفق لها.

هناك خطاب من دون ضوابط، يصل في خطورته إلى مرتبة الاغتيال المعنوي لبعض الناس العاملين في المجال العام، من سياسيين وكتّاب وصحافيين، وصارت وسائل التواصل مخصصة لتوجيه الأذى والتعريض بالآخرين والافتراء عليهم. ويكفي أن يختلف أحدهم مع شخص آخر، أو أن لا يعجبه عمل من أعماله حتى يلفق له قصة وينشرها في وسائل التواصل. والأكثر مدعاة للأسف هو أن يتناقلها الآخرون، بدلاً من أن يستنكروها ويفضحوها، ويقفوا في وجه مطلقها ومروجيها. ومع الزمن، تصبح هذه التلفيقات حقائق على ألسنة قطاع من الناس، أو بعض صفحات الانترنت.

المجال السوري العام تحول إلى ميدان للافتراس في غياب الضوابط، وبسبب حالة الشتات والتراجع السياسي. ودرجت عادة النميمة وتناول الآخرين، وصار كل شيء مباحاً لفئات من المحبطين والفاشلين وضحايا الانفلاش السياسي والأخلاقي، حتى أصبح ذلك مرضاً ينتشر في أوساط اللجوء أكثر من بقية الأماكن. ومن أسباب ذلك، حالة الخواء الإنساني والثقافي الذي وجد البعض ذاته يغرق فيه ولا يجد خشبة يتمسك بها.

ربما لم يَدُر في خُلد فرزات أنه بممارسته الذكورية يضع نفسه بمواجهة نساء سوريا كلهن، لكنه فعل، وعليه ان يتحمل العواقب. وقبل ذلك، عليه أن يفهم أن المرأة السورية شاركت في الثورة وأنها ذات حضور خاص، وبين نساء سوريا نحو 30 ألف شهيدة، وقرابة عشرة آلاف معتقلة. وهي، مثل الرجل، ضحية للاعتداء والتعذيب والاختفاء القسري. لكن عدا ذلك كله، حافظت على دوام مجتمعها المحطم بالقسوة، والعنف، والتهجير والإفقار.

هل سنخسر فناناً؟
ليكن ذلك، فليس من حق مَن يرى في نفسه أو يراه سواه مبدعاً أو متفوقاً أو مفكراً، المساس بثوابت السوريين ورموزهم، وأولها المرأة. الإبداع والتعرض لقمع النظام السوري لا يبرر الخطايا، والتضحيات لا تمنح حق التعرض للآخرين. كان ناجي العلي مبدعاً وناقداً قاسياً لكل ما هو فاسد، لكنه لم يحط من قيمة الشخصية الفلسطينية، بل رفعها إلى مصاف الأيقونة والرمز، وهذا ما يمكث في وجدان الناس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها