الإثنين 2018/03/05

آخر تحديث: 16:05 (بيروت)

حوار مع ابن شبيح

الإثنين 2018/03/05
حوار مع ابن شبيح
في حلب (غيتي)
increase حجم الخط decrease
"يا دواعش... يا صهاينة..."
أكثر من مرة أرسل لي، حساب وهمي في "فايسبوك"، هذه التهم، مع ذكر اسم عائلتي وصورة لمنزل أهلي الذي استولى عليه عناصر اللجان الشعبية أواخر العام 2016 في القسم الشرقي من مدينة حلب. 
أكثر من مرة تحاشيت الرد على هذه التهم التي عفا عليها الزمن، بعد سبع سنوات من اندلاع الثورة السورية في آذار 2011. وما دفعني لعدم الرد هو أن صاحب الحساب وهمي، ولا صورة تدل على صاحب الحساب الحقيقي، لكن ما ظل يثير لدي التساؤل هو صورة منزل أهلي وبابه المخلوع واسم والدي وأخوتي. 
دخلت الحساب الوهمي، وبحثت بين "الأصدقاء" وواضعي علامات الإعجاب على منشوراته علّني أكتشف هوية صاحب هذا الحساب، فوجدت له صديقاً فايسبوكياً واحداً فقط. كبّرت بمؤشر "الماوس" صورة الصديق الوحيد، لأجده شاباً صغيراً بالكاد يُرى شارباه ولحيته المبعثرة.

لم أعرفه، فبحثت بين أصدقائه، ليصل بي المطاف إلى أن والد هذا الحساب الوهمي هو أحد عناصر اللجان الشعبية ممن جندهم النظام السوري كقوة عسكرية رديفة للجيش السوري والأجهزة الأمنية، بغية قمع التظاهرات بداية، ثم انتهى بهم الأمر قتلى ومبتوري السيقان، في معارك يخوضونها نيابة عن الجيش السوري.. كما حدث مع هذا العنصر.
 
سألت الشاب عبر حسابه الوهمي عن صحة والده، وأبديتُ إعجابي بالأيام التي غيرت حتى ملامح وجوهنا والسنين التي مرت. أتذكره عندما كان صغيراً جداً يطلب مني مساعدته بإغلاق "درابية" محل جده قبيل اندلاع الثورة. أخبرني أن سبب بتر ساق والده هو (نحن)، "أبناء علي" (اسم والدي)! لأننا كنا ننسق التظاهرات في الحي ونكتب على جدران المنازل حلمنا بإسقاط الأسد! واستمر يكيل الشتائم والوعيد بالقتل وسحل جثثنا في شوارع الحي. أخذت نفساً عميقاً: هل أتجاهل الرد على الرسائل الأخرى. هل أترك ليَدي أن تكتب من تلقائها وعيداً له ولوالده، وتهديداً بمصير القتل والسحل أيضاً، وأن لنا عودة إلى حلب وإن طالت السنين؟ آخذ نفساً ثانياً لأفكر بعمر الشاب والضفة التي أنا فيها، ضفة مناصري الثورة، وهل آلية التفكير يجب أن تكون نفسها؟ وهل عليّ أن أبلور من كلماتي شخصية "شبيح" آخر؟ ويصنع مني عدواً وتكون كلماتي مبرراً له في حمل السلاح واحتمال بتر ساقه في المستقبل مثل والده؟
كل الاحتمالات خطرت في بالي أثناء التفكير في الرد عليه، مع شريط من صور الباصات الخضر ومعاناة أهلي مع التهجير وقصص كثيرة. 

أقرر أخيراً أن أردّ عليه، بعد تقشير كلامه من كل كلمة سببت لي تشنجاً عصبياً، فإن لم أكسبه لصالح "الثورة"، لعلني أحول دون تحوله قاتلاً يستسيغ القتل، أو دون أن يصبح مجسماً عسكرياً أمام زعيم للشبيحة يجلس خلف طاولة مسروقة من منزل مدني ويضع كوب الشاي على غسالة مسروقة أيضاً ويزين مكتبه برايات متناقضة، من راية "حزب الله" اللبناني وعلم روسيا، إلى صورة جمال عبد الناصر، وعلَم الحزب القومي السوري، لينعم عليه من المسروقات براتب زهيد يعتاش منه. 

أخبرته، أننا لم نخرج بالثورة ضد شرطي المرور، ولا ضد عمل المخافر، ولا ضد وزارة الاتصالات، رغم التهمة بأن سبب خراب البلد هو الثورة، وأنه لو لم نخرج بهذه الثورة لما بترت ساق والده، وكل ما حدث بسببنا! وعندما سحبته إلى مربع "الكن"، و"بس"، عرفت أنه بدأ يفكر بينه وبين نفسه، لأخبره أن من خرب الممتلكات العامة هو عدوي قبل أن يكون عدوك ولو وضع على رقبته علم استقلال سوريا بمساحة مترين بمتر. 
فهمت منه أن والده أقنعه بأن سبب فقرهم وسوء حالتهم المادية، هو الثورة، والثورة سبب انقطاع التيار الكهربائي.. أما ارتفاع سعر الدولار الأميركي على حساب الليرة السورية فهو أيضاً بسبب الثورة.. سبب كل شيء سيء في حياتهم هو الثورة. 

آخذه في جولة تاريخية عن لمحات من تاريخ سوريا المعاصر، وفوائد الثورات على الشعوب.. وأحاول اقناعه بأنه لا ذنب للعنب بما يفعله النبيذ. 

بعد أكثر من ساعة من الأخذ والرد والصد وعودته للاتهام، طلب مني أن يسألني سؤالاً واحداً فقط، لأرد عليه بأن الوقت كله لك، والروابط المشتركة أكثر بكثير من الروابط غير المشتركة، ليكتب ثم لا تظهر على شاشة الحاسوب إشعارات الكتابة، ثم يتوقف عن الكتابة، ثم يعود، ليكون سؤاله أخيراً: 

لماذا داعش وجبهة النصرة خرجت عندكم وأخذت كل هذه المناطق منكم، إن كنتم تدّعون محاربتها، ولم تظهر في مناطق الجيش السوري؟

أجبته أن الكبت الديني الذي مارسه الأسد الأب، ومن ثم لحقه الابن، ولّد جيلاً يتعطّش للتدين. ومستوى الحريات الذي وجد في المناطق التي يسيطر عليها "الجيش الحر" عال وسلبي إلى حد ما، ولم يتم ضبطه من قبل جهة عليا، وكان الباب الذي دخلت منه كل من النصرة وداعش على المجتمعات القاطنة في المناطق "المحررة" هي تلك النصوص الدينية التي منع الأسدان تعليمها في المدارس، والفيديوهات المرفقة بخطاب طائفي والتي نشرتها عناصر المليشيات الشيعية بداية الثورة في سوريا. وأنهي إجابتي له: إن إرهاب "القاعدة" و"النصرة" هو ابن إرهاب الأسدين والمليشيات الشيعية المساندة له.. وكلهم أعداء لثورة الشعب السوري التي تهدف للمساواة والمواطنة بين كل فئات الشعب السوري. 

ظل أكثر من ساعة ولم يرد على رسالتي، رغم أنه تلقاها ورآها. فنِمتُ، واستيقظت على رسالة منه: ليش ما حظرتني؟ منيح لقيت مين يسمعني.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

مقالات أخرى للكاتب