الثلاثاء 2019/03/05

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

فن التسول

الثلاثاء 2019/03/05
فن التسول
في لندن ينتشر المتسولون في الشوارع ذات الطابع السياحي وفي محطات القطارات
increase حجم الخط decrease
أقود سيارتي إلى بيروت. أقف عند إشارة حمراء في مدينة صيدا. يقترب طفلان من الزجاج الأمامي ويرشانه بسائل تنظيف. أشغّل الماسحات وأطردهما. يقترب طفل آخر من النافذة ويستجدي ثمن قنينة ماء، أرفض، فيطلب مني سيجارة. عمره حوالى 12 عاماً، أعطيه سيجارة لكنه يرفض أن أشعلها لأجله. 
عند الإشارة الضوئية الثانية، تنتظرني أيضاً مجموعة أخرى من المتسولين، كذلك عند زحمة السير أمام محلات الحلويات وقبل حاجز الجيش، ماسحو زجاج أو بائعو محارم ورقية أو علكة، أو مجرد شحاذين يدعون لي بالتوفيق.

بين حين وآخر ينتشر خبر عن موت متسوّل وجدوا في حوزته مبالغ مالية ضخمة وحساباً مصرفياً، أو اكتشفوا امتلاكه لعقارات باهظة. أحياناً يتمّ رصد أحدهم عبر كاميرات المراقبة فيجدون أنه يصطنع الإعاقة لكي يحوز تعاطف الآخرين، ومع ذلك لا يكف الناس عن مساعدتهم وإلا لما استمروا بممارسة التسول.

عندما كنت في لندن قبل أعوام، كان المشهد قريباً. هناك أيضاً، ينتشر المتسولون بكثافة في كل الشوارع ذات الطابع السياحي وفي الأسواق. بعضهم يعزف على الغيتار أو يغني أو يرقص أو يقدم عرضاً ما. كان هناك شاب يعزف على الكمان وفتاة تغني الأوبرا. أذكر أنني اشتريت فنجان قهوة وجلست أستمتع بمشاهدتهما، نصف ساعة. المتسولون في لندن مصدر تسلية جيد ومعظمهم يقدم أداءً جيداً جداً. قضيت الكثير من الوقت جالساً على الرصيف، أحتسي قهوتي وأستمتع بما يقدمونه. 

أخبرني أحدهم في ما بعد أن هؤلاء المتسولين/الفنانين، ينالون رخصة من البلدية لكي يقدّموا العروض في مكان معين ووقت تحدّده لهم، ويدفعون ضريبة في المقابل. ولأجل ذلك، كان عليهم تقديم عروضهم أمام إحدى اللجان التي تقرر ما إذا كانوا جديرين بالتواجد في الشوارع، أم أنهم سيكونون عبارة عن تلوث صوتي مزعج للآخرين فيتمّ منعهم. 

عندما بدأت الحرب في سوريا ومع موجات النزوح إلى لبنان، ارتفع عدد المتسولين، وارتفع كذلك عدد الذين يدّعون أنهم سوريون فيما يستولون. أصل إلى بيروت حيث ينتظرني صديق في أحد مقاهي شارع الحمرا. أركن سيارتي وأسير في الشارع فأصادفهم عند كل زاوية وأمام كل محل تجاري، امرأة تحمل طفلاً تدعو لي بطول العمر، أطفال يمدون أيديهم يستجدون ثمن سندويش، كهل يبيع الورد. كانوا يستعملون كل فنون إثارة التعاطف، لكنهم جميعاً، بالنسبة إلي، فاشلون. أجلس برفقة صديقي فيأتي طفل ويطلب مني الإقتراب ليهمس بأذني سراً. أقترب فيقبلني على خدي، أعطيه قطعة نقدية مع أني على يقين أن مشغّليه قد علّموه هذه الحركة كي يستدرّ عطفنا. 

القليل منهم كان ناجحاً بشكل مبهر. أذكر امرأة عجوز أجدها كلما مررت بالقرب من السفارة الكويتية، تقف هناك حافية القدمين صيفاً شتاءً، كان مشهدها رافعة يديها إلى السماء مؤثراً. أستطيع أن أشعر بالصقيع يتسرب من قدميها إلى جسدي وهي واقفة تحت المطر، أو لهيب الإسفلت تحت الشمس الحارقة. كان شراء حذاء رخيص أمراً سهلاً، لكن السرّ كلّه يكمن في القدمين الحافيتين والذراعين الممدوتين إلى السماء.

قبل عامين كنت أتجول في المتحف الوطني في لندن. لست، في العادة، من محبي المتاحف، فهي عبارة عن جرعة زائدة من اللوحات التي، لكثرتها، تجعلني عاجزاً عن التركيز في واحدة منها. بينما أمر سريعاً على معروضات المتحف، استوقفتني لوحة فنية، تأملتها لوقت ليس بقصير. لوحة المتسول الأعمى لرسام بلجيكي يدعى جوزيفوس لورانتيوس ديكمانس، تظهر رجلاً عجوزاً أعمى بلحية بيضاء تقوده فتاة جميلة جداً، يتسولان أمام كنيسة يظهر فيها المسيح على ضوء قنديل خافت، وخلفهما امرأة خارجة من الباب تحمل كتاب صلاتها. لا أدري لماذا الاستغلال الدائم للطفولة والجمال في التسول، وكيف يصوّر المتسولون مساعدتنا لهم كواجب ديني وتطهير لخطايانا.

على كل حال، كان مشهد العجوز مع الفتاة والمسيح مؤثراً، تصوير مثالي لكيفية استغلال العناصر من أجل إثارة تعاطف الآخرين. أدركت بعدها أن استدرار الشفقة فن لا يجيده جميع المتسولين.

أغادر شارع الحمرا وأقود سيارتي إلى جل الديب، شمالي بيروت، لملاقاة أحد الزبائن. في طريق العودة، ألتف من تحت جسر نهر الموت، حيث زحمة سير دائمة. أسفل الجسر، أجد مجموعة متسولين، افترشوا بساطاً على الأرض. رجل ستيني نحيل وأصلع يجلس متأمّلاً، امرأة أربعينية تهتمّ بطفل رضيع، طفلان صغيران يلعبان قربها. ركنت سيارتي جانباً ورحت أراقبهم. كانوا عائلة متسولين نموذجية في مشهد متقن، يمارسون حياتهم على البساط الصغير كالمعتاد، منفصلين عن محيطهم، مشكّلين لوحة فنية لعلاقات حقيقية وصادقة بين أفراد العائلة. 

الحقيقة ان هناك فقراء حرمتهم الحياة من أبسط شروطها، وحرمهم القدر من القدرة على تقديم أدنى خدمة للمجتمع كي يتقاضوا أجراً يعيلهم. هؤلاء، على الدولة والمجتمع تحمل مسؤوليتهما تجاههم. أما الآخرون، المتسولون النصابون، فإذا كان استدرار الشفقة هو الفنّ الوحيد الذي يجيدونه، فلماذا لا تقوم لجنة بفحص أدائهم والسماح فقط لمن يجيد هذا الفن بالتواجد في شوارعنا؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها