الثلاثاء 2018/05/01

آخر تحديث: 15:42 (بيروت)

قضية زياد عيتاني وقضايانا: شهادة شخصية

الثلاثاء 2018/05/01
قضية زياد عيتاني وقضايانا: شهادة شخصية
increase حجم الخط decrease
أوقف زياد عيتاني دون مقدّمات. لم تترك البيانات الرسميّة المتتالية التي صدرت عن جهاز أمن الدولة أي مجال للشكّ بصحّة الخبر. أخبرونا منذ اليوم الأوّل أنّ الرجل قد اعترف سريعًا بالتواصل المباشر مع العدوّ الإسرائيلي، بالإضافة إلى تلقّيه حوالات ماليّة شهريّة وتكليفه بمراقبة شخصيّات سياسية معروفة وعمله على التوغّل بيننا لأهداف مشبوهة إلخ... هي التهمة السوداء القذرة إذًا، العمالة التي يجب علينا سريعاً مهاجمة صاحبها وإذلاله وإذلال كلّ من يدافع عنه معه، التهمة التي دفعت أقرب ناسه للتخلّي عنه والبراءة منه.
تسرّعتُ يومها مثل غيري في إدانة الرجل، كتبتُ نصّاً طويلًا متفجّراً دانه وطاله على الصعيد الشخصي والفنيّ والسياسيّ. شجّعتُ الناس على الفرح بخبر الإعتقال عوضاً عن الندب والتحسّر، فاعتقاله هو إنقاذ لكلّ من كان على علاقة شخصيّة أو مهنيّة معه بمن فيهم أنا ودائرتي المقربّة (كنتُ شريكًا في مشروع فنيّ يتضمّن اسم زياد عيتاني ضمن فريق العمل) نصحني البعض بالتريّث لفترة قبل إعلان موقف كهذا، لكنّني رفضتُ بقسوة لأسباب عديدة أُشيرُ إلى ثلاثة بارزة منها:

1- لم تكن التهمة تهمة يمكن تبريرها أو فهم دوافعها، بل كانت العمالة لإسرائيل بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من وقع بشعٍ وكره ومجازر ودماء. كانت تهمة الرجل توّرطه في كلّ قطرة دمٍ سالت في بلادنا بيدٍ صهيونيّة طيلة العقود الماضية، وهو ليس بالأمر الذي يحمل أيّ تفهّم أو تقبّل أو شعورٍ بالآخر.

2- نشرت الدولة إعترافات عيتاني على الملأ وحسمت الأمر، لم تطلب من الناس انتظار نتائج التحقيق. فتح المسؤولون أبوابهم وصفحاتهم لتلقّي التبريكات على الإنجاز الضخم. سُرّبت محاضر التحقيق الكاذبة لمجانين الصحافة والتلفزيونات وبدأت الحفلة. أُعدمَ الرجل منذ اليوم الأول لتوقيفه وصارت قصّته قضيّة الموسم الشتوي. كلّ يومٍ يحمل لنا أحدهم دليلًا جديدًا على تورّط هنا واعتراف هناك بما هو أبشع وأقذر من مجرّد تواصل تحت ضغط الابتزاز الجنسي.

3- شكّل القبض على عيتاني الفرصة الذهبيّة لتجمّع أبواق الممانعة في لبنان، لم يخجلوا من تخوين كلّ من يخالفهم الرأي خصوصاً في ما يخصّ سياسة حزب الله وتوّرطه في الإبادة في سوريا. لم يخجلوا من تعميم عمالة عيتاني على كلّ من يحمل في خطابه انتقاداً أو دعوة لإعادة النظر فيما يخصّ شعارات الممانعة والمقاطعة وأساليبها البالية. صرنا كلّنا في قفص الاتهام، وجدنا أنفسنا نقدّم براءات ذمّة بسذاجة وعشنا ما عشناه من نوبات رعب وشكّ بكلّ محيطنا. 
لم يحتج "ترِند" زياد عيتاني الكثير من الوقت ليهدأ. أكمل كلّ منّا حياته كأنّ شيئاً لم يكن، نأكل ونشرب ونعمل بينما يعاني الرجل ما يعانيه ويرى ما يراه من ظلمٍ في الأقبية والزنازين وكأننا قد تمّ تجنيدنا بطريقة غير مباشرة في ظلمه. نامت عيوننا جميعاً عن الموضوع إلّا أعين مجموعة صغيرة عملت بصمتٍ ودقة على إثبات البراءة وكشف ملابسات التوقيف وقلب الطاولة على رؤوس الكبار.

قاوم الجهاز الأمنيّ المعنيّ هذه المحاولات طبعاً، بل أصدر قبل إطلاق سراح عيتاني بساعات، بياناً هدّد فيه كل من تسوّل له نفسه بالدفاع عن المتّهم بحشره معه. ثمّ خرج فجأة وزير الداخليّة بتغريدته السوريالية التي يطالبنا فيها بالإعتذار من عيتاني وخرج الأخير إلى الشمس مجدّدًا حاملًا براءته وثقل التجربة المهولة. 

ليس مهمّاً إن كان قد نالها بسبب الحظّ أو بسبب صراع الأجهزة الأمنية وانقسامها السياسيّ، ليس مهمّاً إن كان موسم الإنتخابات قد عجّل بخروجه، ليس مهمّاً إن كان الرجل اليوم يشكر أركان هذه الدولة التي فعلت به ما فعلت ويعتلي منبر أيّ طرفٍ سياسيّ فيها، لا يحقّ لأي أحد إصدار أي حكم أخلاقي تجاه عيتاني خاصة إن كان قد دانه سابقًا او سكت عن توقيفه (بمن فيهم أنا بالتأكيد). 

المهمّ الوحيد الآن هو الإجابة عن السؤال البسيط: "لمذا دخل زياد عيتاني السجن؟" إن كان الجواب كما تبيّن لاحقاً أنّه ثأر شخصيّ ببساطة من شخصيّة بارزة في الدولة استغلّت موقعها وعلاقاتها يُطرح السؤال الأهمّ "من سيحمينا نحن من ثأر شخصيّ آحر لشخصيّة بارزة أخرى في الدولة؟" لأنّنا لا نتحدّث هنا عن تجاوز فردي بل عن نهجٍ تشبيحيّ فاسد صار صفة ملازمة لكيفية إدارة الدولة لشؤونها الصغيرة والكبيرة.

من جهتي لم أعتذر من زياد على ما كتبته يوم توقيفه فأنا لن أنفّذ أوامر الدولة بهذا الخصوص، لأنّها هي من يدين لنا جميعاً بالاستقالة الجماعية والانتحار السياسي وليس مجرّد الاعتذار. على هذه السلطة مجتمعة التنحّي وفسح المجال لجيل جديد يحاول إصلاح ما فسدته أيديهم طيلة هذه العقود. أنا أدينُ بالاعتذار من نفسي لأنّني خفتُ وصدّقت حرفًا واحدًا من كلّ تلك البيانات ولم انتبه لسخافتها وتطابقها مع بيانات الاعترافات الملفّقة التي تصدر عن أجهزة أنظمة الطغيان العربيّة تمهيدًا لتعذيب الناس وقتلهم وحرق بيوتهم.

يجدر القول نهايةً أنّ قضية زياد عيتاني قد شكلّت درساً جماعياً لنا، إن لم نأخذ منه العبر اللازمة سننتهي كلّنا في السجون بتلفيقات وتهمٍ قذرة. علينا إعادة النظر في كلّ بيان صدر عن هذه الأجهزة منذ تأسست، أن نتذكّر ونسأل عن مئات بل آلاف المظلومين المجهولين الذين يتعفّنون في السجون والأقبية وليس لهم من ينقذهم أو يسأل عنهم على الأقل. أن نضع إصبعنا في عين من سيحاول تخويننا بعد الآن ونجاهر بموقفنا الإنساني من كل المذابح التي تحصل تحت الشعارات الوطنيّة الرنّانة، أن نعرف أنّنا حين نطالب ونكتب ونغنّي لإسقاط أيّ طاغية في العالم فهو لإسقاط طغاة بلادنا بالدرجة الأولى.

أكتبُ هذه الشهادة اليوم وأنا على تواصل يوميّ مباشر مع زياد عيتاني. أغوص في تفاصيل ما رآه وعاشه حين كنا نأكل ونشرب ونشتمه بالسر والعلن، أسمعُ منه ما لا يُصدّق وأرى في عينيه أثر القهر والوجع والظلم المتواري خلف شعارات الأمن والأمان والاصلاح في هذا البلد التعيس. تتراكم التفاصيل الصغيرة والكبيرة المرعبة مثل جبل مهول جاثم على صدورنا... أمّا ما سنفعله بهذه التفاصيل لاحقًا وكيف سنتعامل نها، فهذا موضوع آخر له وقته المناسب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها