الثلاثاء 2017/11/21

آخر تحديث: 17:12 (بيروت)

السعادة.. مَرض العصر

الثلاثاء 2017/11/21
السعادة.. مَرض العصر
increase حجم الخط decrease
يكفي أن تسأل غوغل "كيف أكون سعيداً؟" حتى تحظى بآلاف النتائج التي تأخذ بيدك وتدلّك إلى الطريق. ومن أجل إلمام أعمق بموضوع السعادة، يقدّم لك موقع "أمازون" حوالى 85 ألف كتاب يمكنك الإختيار من بينها. إفتح التلفزيون، وستجد "غورو" عصرياً يبشّر بالسعادة وكيفية الوصول إليها. الإعلانات التي تتخلّل برنامج هذا "الغورو" ستخبرك، هي أيضاً، كيف تجد السعادة. 
لقد أضحى "السعي خلف السعادة" شعار جيل الألفية، ومبدأها المسيّر. وما كان يوماً "فضيلة" بالنسبة إلى أرسطو، يتخذ اليوم هيئة الهوس. وفي محاولاتنا الحثيثة إلى القبض على ما أمكننا من متع، أصبحت السعادة ملتبسة مع الترف، مع قيام إقتصاد السوق على الخلط بينهما. يشكّل إندفاع الناس إلى شراء السعادة مصدر ربح بالنسبة إلى شتى القطاعات الاقتصادية، إلا أن قطاع السعادة الأوّل هو بلا شك قطاع الإعلانات، بما يقدّمه لنا من سعادة جاهزة للشراء والاستهلاك، مرة بعد مرة، سلعة بعد سلعة.

وإذا كان قطاع الإعلانات أحد مسببات المرض/الهوس، فإن السوشيال ميديا عارضه الأبرز. هاجس السعادة الذي تغذيه السوشيال ميديا، إلى جانب غيره من الهواجس المرتبطة بإستعراض الذات أو تقنيعها، يجعل من هذه الذات مجرّد صورة تخضع للتنقيح والتعديل المستمرين. وقد غدت مواقع التواصل بمثابة حاضنة لصور تطوف بشكلٍ لا متناهٍ، متنافسةً في ما بينها على عرض حياة سعيدة، بل ومثالية. فباتت الإبتسامة العريضة (جداً) مع الأسنان الظاهرة هي الصورة، هي الأكثر إنتشاراً في "فايسبوك". وأصبحنا نتعثّر هنا وهناك، بصورةٍ لشخصٍ يمارس اليوغا أو التأمّل، أو يطارد السعادة بأي أسلوبٍ آخر. قبلات في صورة، ضحكات عالية في فيديو، أو "بوست" عن اليوم المثالي الذي قضيناه برفقة أصدقائنا المثاليين في مكانٍ مثالي.

لكننا ندرك جيداً أن السعادة ليست بحاجة إلى سيلٍ طويلٍ من الصور لإثباتها. فالإصرار على تصوير محاولاتنا المستمرة لبلوغ السعادة، ليس سوى دليل على إنتقاصها. والحال أن هذا الإقحام المستمر والمفتعل للسعادة في مواقع التواصل الاجتماعي قد خلق ظاهرة متناقضة من داخلها. 

فإلى جانب كونها الوسيط الأول لعرض السعادة، تكشف شبكات السوشيال ميديا، عملية مطاردتنا لشبح السعادة. ففي مقابل المحتوى الغزير الذي يدعو إلى "التفكير الإيجابي" و"العيش بشغف" (إلخ..)، برزت صيحة أخرى بالشدة نفسها، وهي في إزديادٍ مستمر ومثير للقلق منذ سنوات، إنها النزعة إلى إستعراض الكآبة عبر الإنترنت.

يؤكّد توازي هاتين الصيحيتين، ومغالاة كلا المعسكرين في إظهار موقفه الشعوري، أن سعادة السوشيال ميديا وكآبتها ليسا سوى وجهين للعملة/الصورة نفسها. فالإثنان يغذيان ويعيدان إنتاج بعضهما البعض، خصوصاً أن عالَمي الإعلانات والتواصل الاجتماعي أصبحا "مُكلَّفَين" بتحديد معايير السعادة وأسسها. هكذا يشتد مرض العصر، مرض البحث عن السعادة الذي تعود جذوره إلى تربيةٍ أوهمتنا بأن السعادة هي الموقف الطبيعي.
يسأل المفكر سلافوي جيجك: "كيف يحدث، في عصر المتعة الروحانية، حيث هدف الحياة نفسها هو السعادة، أن يكون الإكتئاب والقلق في أوج إنتشارهما؟". وفي تحليلٍ لاكاني (نسبة إلى جاك لاكان) لهذا التضارب، يجيب جيجيك: "تعتمد سعادة الفرد على عجزه عن مواجهة عواقب رغبته. ففي حياتنا اليومية ندّعي بأننا نرغب في أشياءٍ لا نرغب فيها فعلاً، بالتالي فإن أسوأ ما قد يحدث هو أن نحصل على ما نرغب فيه رسمياً". 

وها نحن نستعرض في السوشيال ميديا، يومياً، ما نرغب فيه "رسمياً"، نحن الأفراد المخلصون لواجبنا الوجودي بأن نكون سعداء. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها