الثلاثاء 2022/11/22

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

أمي، كيف يبدو الله في غوغل؟

الثلاثاء 2022/11/22
أمي، كيف يبدو الله في غوغل؟
سالفادور دالي - "أمومة"
increase حجم الخط decrease
ممر ضيق، نساء وأطفال وبضعة رجال ينتظرون دورهم لدخول العيادة. أبطئ الخُطى لأتوقف عند باب غرفة الانتظار المعتمة حيث اكتظ المزيد منهم. لثوانٍ فكرت في العودة، لكن الوجه الشاحب لابنتي الممسكة بيدي جعلني أنتظر كما الآخرين. الساعة في يدي تشير للثانية والربع، موعدي الساعة الواحدة، ما أكثر هؤلاء النسوة!

أحاديث متشابهة تسمعها أينما ذهبت، متقاطعة بعبث وفوضى، يرثين أحوالهن، من سوء تغذية، إلى انقطاع في الكهرباء والماء والغاز والمازوت والبنزين، إلى ملابس مستعملة... ومع هذا يُحضرن للعالم مَن يشاركهن تعاستهن! الغرفة صغيرة ولا تتسع لكل تلك الأنفاس التي جعلت الانتظار يبدو لانهائياً. جلستُ مكانَ امرأة انسحبت بعد تردد، على كتفها يغفو رضيعٌ يعاني من خلع ولادي، خطأٌ طبي أثناء الولادة، سيسبقها باص القرية إذا تأخرت بعد! بقربي تجلس امرأة لم تتجاوز العشرين، تحمل بين ذراعيها طفلاً يبكي ويضرب بقدميه الصغيرتين على بطنها المنتفخة، حيث يستقر آخر منتظراً دوره للخروج إلى العالم. عالمنا الذي اكتظ بثمانية مليارات، عالم الحروب والنزاعات والكوارث والأوبئة، عالم يتهاوى من الجوع والفقر والبطالة، ترتفع حرارته، يذوب جليده، يزداد تلوثاً، تنقص موارده، ومع هذا، يزداد ساكنوه. الشهوة والتعطش للوجود الذي يسلمنا إلى اللذة وتجديد الولادة والإحساس بالرغبة والأنانية، هذه كلها مصادر الآلام، يقول بوذا.

حياتنا بأكملها تبدو مجرد فوضى، وعبث. ننجب الأطفال بلا تخطيط، بلا دراسة، وبلا وعي وإدراك، تُحركنا عواطفنا وأنانيتنا. ندخلهم في الوجود من دون تفكير، وطبعاً لا نسألهم. يجيب فولتير على لسان زديج عن لغز الكاهن الأعظم، "ما يعطونه غيرهم من دون أن يعرفوا أين هم منه، ويفقده الناس على غير وعي منهم"، بأنه: "الحياة". همست ابنتي في أذني وهي تراقب الأطفال، بأنها تود أن تصبح أمّاً حين تكبر. وأنا مثلها أحببت الأطفال ولا أزال، وبقرار عاطفي أنجبت أطفالي أيضاً، من دون أن يكون لهم خيار القبول أو الرفض لوجود يجهلونه كل الجهل، ونسيت تماماً أنهم لن يظلوا أطفالاً...

مذ عرفت بحملي الأول، تولد ذاك الشعور وبدأ ينمو داخلي، كائن يكبر ويبسط سيطرته، يتضخم أحياناً، يصغر أحياناً أخرى، لا يمكن ترويضه ولا التحرر منه. هو الخوف الذي أنهى لا مبالاتي. خوف من حبّتي دواء تناولتهما. خوف من الآخرين. من سؤال ابني عن مغزى الألم، خوف عليه من دموع لم يتدرب على إخفائها وهو يراقب ذاك الصبي، الذي كان يوماً في صفه، يُضرب بعصا أبيه الأعمى وسط الشارع. دموع من عالم قاسٍ. خوف عليه وهو يكبر أمامي ويطلب تركه وحيداً ليفكر. خوف ممزوج بندم وقلق من ضربة تلقيتها وابنتي تتشكل في داخلي. ابنتي التي ظلت تجادلني منذ أيام حول عدالة الحرب إلى أن غفت. آلاف الأسئلة الأخلاقية التي حاصرتني منذ علمت بحملي الثالث إلى الأمس حين أخبرتني ابنتي ذات السنوات السبع أنّها أجرت بحثاً عن شكل الله في غوغل.

هل أخطأتُ في إحضارهم إلى هذا العالم الذي يفرض عليهم وعليَّ الألم والمرض والحزن والخوف والقلق؟ وهل تستحق أن تُعاش هذه الحياة اللغز التي لا ندرك بدايتها ولا نهايتها، التي ما إن نظن أننا نمسك بها أو نفهمها حتى ينهار العالم بأسره فوق أكتافنا؟ هل البنون زينة الحياة الدنيا حقاً؟ زينة لنا! وماذا عنهم؟ أليسوا هم "البنون" مصدراً للقلق والخوف والأسئلة والمسؤولية؟ ألا يكون إحضارهم جناية عليهم كما يقول المعري؟

في هذا المكان يبدو الإنجاب كارثة مضاعفة...نظام تعليمي فاشل، متاعب وقلق وشقاء، فقر وتخلف وجهل وسطحية، تديّن وإذعان للأقدار. أمضت جارتنا، سهى، سنوات عمرها الخمسين مسجونة في جسد لا يتجاوز طوله السبعين سنتميتراً، أمضتها عرضة للتنمر واللا-إنسانية والنظرات الفضولية، حتى استراحت قبل أيام. الدروز، مثل الهندوس، يعتقدون بأن الروح تنتقل من جسد لآخر، لا تفنى ولا تنتظر ولا تتناثر في الفضاء، وِلادات متتالية حتى الاكتمال.

في أمنيتها الأخيرة تكتب فريدا كاهلو التي سُجنت في جسد مُعطّل: أتمنى أن يكون الخروج سهلاً، وإذا كانت هناك عودة أتمنى ألا أعود. لا بد أنَّ أُمنية مماثلة كانت لسهى. حياة تثير الاشمئزاز، آلام ولادة، مرض، عبء الزمن، اختبار الموت، عالم ضبابي. فلنكف إذاً عن التناسل، كما يقول فولتير.

يتقاضى أطباءُ النسائية، الملايين، مقابل إجراء محاولات حَمل، معظمها فاشل، في حين يعيش ملايين الأطفال في مخيمات لجوء على أطراف العالم، ويغرق عشرات الأطفال في حاويات القمامة بحثاً عن حيواتهم داخلها. "هذا العالم لا ينقصه البشر!!!"، هكذا تجيب سو بريارلاي (نيكول كيدمان) في فيلم "lion" المأخوذ عن قصة حقيقية، عن سبب تبنيها لطفلين بدلاً من الإنجاب.

أراقب دموع أولادي المنهمرة من خلال دموعي ونحن نشاهد الفيلم. كم ستتعبهم هذه الحياة. نغادر العيادة بعد انتظار طويل. برد قارس، سحابات قريبة من الأرض، رائحة المطر. ضممت ملاكي الصغير إلى صدري في طريق العودة إلى بيتنا، دفء عميق، طمأنينة، وشعور لا يمكن تفسيره أو وصفه، لكنه... يعني كل شيء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها