الإثنين 2022/07/11

آخر تحديث: 16:19 (بيروت)

مأزقي النسويّ مع أب مُتخَلٍّ عن سلطته

الإثنين 2022/07/11
مأزقي النسويّ مع أب مُتخَلٍّ عن سلطته
increase حجم الخط decrease
عند انجراري الى نقاشات محتدمة حول العلاقات الجندرية غير المتكافئة، وإتخاذي أحياناً مواقف هجومية ضد نموذج الذكورة بكل ما تجسده من فائض قوة، غالباً ما يفترض الحاضرون أنني أتحدث عن تجربةٍ شخصيةٍ مع أب سلطوي وقاسٍ. "هل قمعك أباك الى هذا الحدّ؟" يسألون بنبرة تجمع بين الشفقة والاستخفاف، في إشارة مبطنة إلى أن مواقفي ربما نابعة من عقدة أو نقص، وليست تفكيكاً موضوعياً لواقع أشمل. تربكهم اجابتي حين أعترف بأن أبي هو، في الواقع، من ألطف الأشخاص الذين أعرفهم، وأكثرهم تخلياً عن السلطة.

في رأي أمي أيضاً، ليس هناك ما يبرّر خصومتي مع الذكور وإنعدام ثقتي فيهم. حين أستمع إلى قصص صديقاتي المريرة عن علاقاتهن بآباء طغاة وظالمين، أو في أحسن الأحوال آباء غائبين وغير مبالين، أحياناً -أنا نفسي- أشعر بالحرج، وبأني لا أملك الحق في الشعور بهذا الكمّ من الغضب النسوي؛ غضب مبني على أرضية نظرية، وليس أثر تجربة شخصية مروعة.

أن يكون لي أب غير سلطوي لا يعني، بالطبع، أنني استطعت التملص من كل سلطة ووصاية، ولم يجنبني تجارب التمييز والقمع على يد مجتمع أبوي يندفع، بكل حماسة وإحساس بالواجب، لملء كرسي الأب الشاغر. فحين يتنازل أب واحد عن وصايته على حياة بناته وأجسادهن، يحلّ المجتمع كله مكانه، محاولاً ردم هذا الفراغ السلطوي الذي سيعيث الأرض فساداً وخراباً. لكن، بالرغم من ذلك، ظللت دائماً أبحث عن الجانب الشخصي لغضبي السياسي، عن "التروما" التي تكسبه الشرعية وتمنحني الحق في إشهار خطاب راديكالي غير مساوم.

في أول مسيرة شاركت فيها بمناسبة يوم المرأة العالمي، حملتُ لافتة تدعو الى "إسقاط النظام الأبوي". رأى أبي الصورة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يعلّق، لكن أمي أخبرتني لاحقاً عن شعوره بالخذلان. كان ذلك في العام 2013، قبل غزو القاموس النسوي لمواقع التواصل وتوضيح معانيه لغير المطلعين. يومها، لم يفهم أبي الفرق المفاهيمي بين الأب، كفرد، وبين المجتمع الأبوي، كهيكلٍ سلطوي منيع. ظنّ أن شعاري هو هجوم على شخصه، ولم يفهم سبب هذا الهجوم.

في بيتنا، الكلمة الحاسمة كانت دائماً لأمي. فذلك هو الخيار الأكثر عملانية حين يمضي الأب معظم أيام السنة في بلاد الاغتراب من أجل العمل. لكني أعتقد أن ذلك لم يكن سوى ذريعة، فأبي في واقع الأمر لم يرغب يوماً في ممارسة سلطته، وقد تنازل عنها بإرادته وليس عنوةً. كانت أمي تجسّد الـ"لا" في بيتنا، ولأبي ثقة عمياء في قراراتها وأسلوبها في الإدراة والقيادة. لذلك، كان جوابه كلما التجأنا إليه لكي يأذن لنا بفعل شيء ما: "فلتسألوا أمكم!". لم يكن سلوكه هذا بداعي الهروب من المسؤولية، كما قد يبدو للوهلة الأولى، فقد فهمت لاحقاً أنه ينبع من مكانٍ آخر، أعمق وأكثر ارتباطاً بطباعه. فمع مراقبتي له، ولسلوكه في التعامل مع محيطه، إكتشفت أن لكلمة "لا" وقعاً ثقيلاً على لسان أبي، ليس كأب ومربٍّ فحسب، بل كرجل وإنسان يمتنع عن فرض مشيئته على أيٍ كان.

وحين كنا نحاول، أخي وأنا، استفزازه من أجل تحدّي سلطة أمي، متّهمينه بالخضوع لها، مثلنا تماماً، لم يكن ذلك يزعجه فعلاً. كان يتظاهر بالانزعاج طبعاً، كما هو متوقع من "رب" أسرة أن يتفاعل حين يتم تهديد موقعه. لكن، في سرّه، أعتقد أنه كان يبتسم، لأنه يعلم أن عدم ممارسته لسلطته الأبوية هو أفضل ما يمكنه تقديمه لنا، ولنفسه أيضاً.

أبي يعرفنا تمام المعرفة، بالرغم من قضائه فترات طويلة بعيداً منا. وحين عاد للاستقرار معنا، كان مدركاً بأن ثمة فجوة بيننا يصعب ملؤها بين ليلة وضحاها. لكنه لم يحاول قط فرض نفسه بالقوة، خصوصاً أننا لم نكن نفهم ما هو دوره الفعلي. فدور الأب مبهم في العموم، فما بالك بأبٍ بعيد، لا تربطك به سوى مكالمة هاتفية في اليوم، فتحاول أن تبني عليها علاقة كاملة مع رجل تعرفه بالصوت أكثر من الصورة؟ كان تخيل وجه هذه السلطة الأبوية صعباً عليّ، وأظنّ عليه أيضاً.

حتى اليوم، يدرك أبي الهوة التي بيني وبين هذه الصورة الأبوية، ويتقبلها بصدر رحب. يقبل أنني أفضل العزلة والابتعاد، فيحبّني من بعد. يعرف أنني لا أحب المكالمات الهاتفية لما تجسّده في ذاكرتي من نقصان وافتقاد، فلا يزعجني بمكالمات فجائية. ينتظر أحياناً ان تتصل أمي بي، لينسلّ بخفة على سماعة الهاتف مطمئناً عن أحوالي. يستمع الى بقية الحديث مع أمي، من دون أن يتطفل.

يعرف أبي أيضاً أننا نجتمع كلانا على حبّ الصور، فصرنا نتواصل عبرها. كان التصوير الفوتوغرافي مهنة أبي الأولى، وما زالت تجمعه بها علاقة حميمة. في ما مضى، كان يجعلني أثبت في مكاني لدقائق من أجل التقاط الصورة المثالية، وكنت أتأفف وأتذمّر. لكني أدرك اليوم أنه، بتثبيت عدسته عليّ، دفعني أبي الى الاحتكاك بذاتيتي، الى الشعور بـ"أناي" وتكوين تصوّر عنها، منذ عمر مبكر. ليست لديّ صورة واضحة عن مفهوم الأبوة ودورها، لكن لي من أبي مئات الصور التي ساعدتني على رؤية ذاتي، بعينين أحبّتاني رغم البُعد والهوات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها