الجمعة 2022/07/15

آخر تحديث: 21:02 (بيروت)

الموت... ألوان

الجمعة 2022/07/15
الموت... ألوان
increase حجم الخط decrease
يحيا الموت فينا، منذ لحظة خروجنا من بطون أمهاتنا، ومنا مَن يستشعر وجوده حتى قبل أن يولد. كم من أمٍّ فكرت ملياً وتساءلت ماذا ستفعل... تُبقي الجنين لينمو داخلها وتكبر أحلامها وهمومها معه، أم تقدم له طوق نجاة سريع يأخذه إلى ترحال لا محدود؟

شحنات القلق التي تراود الأم تصل على أغلب تقدير إلى الكائن المستقر العائم في العتمة. رغم أنه لا يعرف بعد، ماذا يعني التنفس السريع تحت ضغط قلق فكرة ناخرة في العقل والجسم، إلا أن ذبذبات منها لا بد أن تجد طريقها إلى خزنة مخفية، تُكسَرُ أغلالُها ويتسرَّب منها قلقه الموروث والشخصي في لحظة ما من لحظات عيشه.

أحداث الحياة، ستجعله واعيًا في وقت قريب من عمره أو في وقت لاحق، سيَّان.

لكل منا لحظته الأولى مع الموت، فكرةً كانت أم حدثاً. فما بالك لو عرف لاحقًا، أنه كان من الممكن أن يكون مشروع نسيان كبير.. أنه كان في الإمكان له ألا يكون. لحظة الإدراك هذه، بداية علاقة لا مناص منها، ولكل منا حظٌ ونصيبٌ في هذه المراقصة مع الموت حسبما تسعفه مكوناته وموروثاته الشخصية، وربما شيءٌ من القدر أيضًا. ولعل أفضل صيغة، أقلّها شجونًا، هي تلك التي نتلقاها في عمر مبكر وفق معادلة أن الجد والجدة رحلوا عنا لأنهم تعبوا، وأن من يموتون هم الذين يصلون إلى عتبة من العمر ليس ما بعدها. أما الأهل والصغار فهم باقون ليعيشوا حياة، فيها من اللعب والطعام والكثير من المشاجرات والدراسة، وحب ما.

لكن للموت وللتعايش معه، صيغًا أخرى. بعيدًا من كل الأصول الدينية التي اكتسبها بعضنا من محيطه، وتلقاها عن فهم أو تلقين وتسليم، فإن معظمنا يتعايش وفق صيغ متأرجحة بين الصراع معه، والهروب منه، أو إنكار له وإقبال لا محدود على الحياة.

لو كنتَ ممن أُسِرَّ لهم أنهم أتوا إلى الحياة بصفح ومِنَّة، فمن أين تتأتى لك الثقة بأنك تستحقها؟ كيف لك أن تنأى عن العودة إلى الرغبة في تنفيذ ما كان يجب أن يكون، كلما وجدت أن الحياة غير عادلة على النحو الذي تتمناه. كيف لك ألا تظنَّ أن قدرك هو الترحال الأبدي الذي حرمت منه، لأن أحدًا ما كان له القول الفاصل في استجلابك إلى هذا الكمِّ الهائل من المآسي. من له أن يجادلَك في هذا؟ لكنها جولة من جولات عديدة، والحياة هي الحياة، لا تجذبنا إليها بإنصافها ولا بانتظامها ولا بوداعتها وهنائها اللامحدود. هي المجاهدة... إلى حين.

وإلى ذلك الحين، نلتفت مجددًا إلى المرآة، ونقول إن الجولة الجديدة تستدعي شيئًا من التهيؤ. قد يكون اغتسال الوجه موعدًا أوليًا مع التطهر من أفكار غائمة. وقد يكون السير في الشارع متأبطًا ابتسامة ساذجة، لا يبررها سوى استماعك لأغنية تنبهك أن الحياة فيها نغمٌ وفيها أرواحٌ تتلاقى بالكلمات وأجسادٌ تحيا بالقبلات.

الأرجح أن ذلك سيبعد عنك هاجسَ موتِك وشكلِه، وأحلامًا عن فقدانك أعزاء قبل أوانهم أو لاقوا موعدهم. عندها، ربما يتراءى لك أنه ليس من داعٍ للتساؤل طالما أن لا وقت للإجابات، بل لا قدرة لك على احتمالها... فإجابات الموت في الغالب هي حقائق فجة.

نُحيل تساؤلاتنا هذه إلى اهتمام مفرط بالحياة. والحياة لذائذ وأطايب تؤخذ أحيانًا بروية وأحيانًا أخرى بالقهر، وغالبًا بهذا وذاك في آنٍ واحد. كأن تقرر ارتشاف قهوتك مغازلاً نفسَك بحسن اختيار نكهتها هذه المرة، وأنت جالسٌ في نعيم الشمس قائلًا: فلتكن خرابًا... لا على نسق مقولة أن كل هذا سيمضي، بل وفق قناعة أنك ماضٍ وليس في يدك شيء سوى هذا الفنجان. وهكذا ننعش قلوبنا بشراب لذيذ، وبدلال ملبسٍ نغدق عليه معاني مستحدثة، وبالتفاتة إلى جسمنا التائه بين أمزجتنا. ففي كل مرة نجدد العهدَ مع الحياة، نهتم به بعدما ألهانا الموت عنه. وكأن حوارنا الحميم مع الموت يتطلب منا زهدًا في المأكل والمشرب والملبس.

الموت يتطلب منا شفافية عالية، لذا علينا أن نتخلى عن كل ما يعزز حضورنا...أن نتخفَّف إلى حدود التلاشي. حوارنا معه، يعني عدمَ إشراك أحد. نتحدث عن الموت مع الآخرين فقط حينما نكون وإياه في حالة جفاء، أو في أقل اللحظات خشية منه. أما في الأوقات الأخرى، تحت الماء الساخن، أو عند الهروب إلى النوم بأثقال العمر كله، فنتلاطم بين ألوان الموت... أي لون لوننا؟ نوم في سرير هانئ... رغبة يدعيها معظمنا. داليدا غنت موتها وحددت مكانه على المسرح وتحت أضوائه، ومع ذلك أنهت حياتها في السرير. لا نُسِرُّ حقيقة بأي موت نريد، لا أحد يريد الكشف عن لونه. لا يكفي أن نكون جاهزين للإجابة عن سؤال الاختيار بين الموت في رصاصة تردينا منسيين في اللحظة، أو رميًا تحت قطار.

هل نعرف الإجابة عن أيهما أفضل... الموت قبل الأحبة أم بعدهم؟ الموت بعد قبلة الحبيب؟ أم خلالها وسط زخم لا قبله ولا بعده؟

ربما هكذا يكسب الجسد زهوَه ويحقق تلاشيه فتكون صفقة رابحة مع الحياة والموت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها