الخميس 2017/11/02

آخر تحديث: 10:38 (بيروت)

القناع المصرفي

الخميس 2017/11/02
القناع المصرفي
increase حجم الخط decrease

في صباح كل يوم، وعندما أشاهد موظفي المصارف ذاهبين إلى مكاتبهم، أنتبه إلى حقيبة صغيرة، مستطيلة، يحملونها مع أغراضهم، والتي غالباً ما تكون عبارة عن كيس أو حقيبة ظهر. أحملق في هذه الحقيبة، فيعتريني شعورٌ، لا أعرف ما اسمه، لكن أثره سيء فيّ. إذ تختزل تلك الحقيبة حضورهم في وظيفةٍ، تستلزم منهم التقيد، لا بوقتٍ أو مهمة يومية ينفذونها من خلف حواسيبهم، بل التقيد بمظهر بعينه، يقوم على الزي المرتب، والمسلك المدروس.

يرتدون بذلاتهم، التي، وفي الكثير من الأحيان، تتأرجح بين لونين، الأسود والكحلي، وتحتها قمصان بيضاء أو زرقاء فاتحة. يلفون حول أعناقهم ربطات العنق، ولونها من لون شعار المصرف. وما إن يصلوا إلى العمل، حتى يرتدوا قناعاً محدد، وهو قناع الدماثة، التي لا يتوقفون، طوال الدوام، عن تأديتها في إزاء الزبائن الذين يستحقونها، ولا يستحقونها. قناع الدماثة بلاستيكي، إبتسامة جامدة، وملامح تشي بأن أصحابها مسرورون بـ"خدمتكم" وجاهزون لها باستمرار. يمكن للزبائن أن يمتعضوا، أن يغضبوا وأن يصرخوا، لكن مُرتدي الأقنعة يتوجب عليهم أن يبقوا على دماثتهم، كما يتوجب عليهم غالباً أن يعتذروا منهم عن أي تأخر أو تباطؤ.

كلما دخلت مصرفاً، لا أتوانى عن محاولة النبش تحت قناع الدماثة الوظيفية. فما يجهدون في إخفائه تحت القناع، يبرز في شدة حركاتهم اليديوية، وفي نبرات كلامهم، وفي نظراتهم، التي يتبادلونها بين بعضهم البعض عندما يغيب انتباه الزبون عنهم، ولو للحظة. كأنهم يقولون: "كيف نتحمل كل هذه الغلاظة؟ كيف نواصل سترنا الإستياء منها؟". وحين أتقدم منهم، بعد تفرجي عليهم، سرعان ما أرتبك.، إذ لا أعرف كيف أتعامل معهم. فهل أُشعِرهم بأنه لا حاجة لهم إلى ارتداء القناع أمامي؟ أم أنخرط معهم في تمثيلتهم، فأُشعرهم بأني أقدّر دماثتهم، وأشكرهم من كل قلبي، مؤكداً لهم أني صدقتها، ولم أعرف أنها قناع؟ هل أُشعرهم بأنهم يؤدون دوراً لا داعي له معي؟ أم بأني أصدّق هذا الدور وكأنه ليس دوراً في الأساس؟

أرتبكُ حتى يحين انسحابي من هذا الموقف. وخلال وقوفي إزاءهم، أشرد قليلاً في حقائبهم الصغيرة المستطيلة، فألمحها على طاولاتهم، أو تحتها، إلى جانب حواسبيهم، أو خلف كراسيهم. ألمحها، وأحسب أنها الغرض الفعلي الوحيد، الذي لا موضع له في تمثيلتهم، لا سيما أن ألوانه غالباً ما تكون مبرقشة، ولا تنجسم مع أزيائهم وسلوكياتهم الثابتة. ثم أن توضيبهم للمأكولات فيها كان قد حصل في منازلهم، حيث لا يضطرون إلى ارتداء أي أقنعة، وإذا فعلوا، فلعلها أقنعة أكثر ملاءمة لهم من قناعهم المصرفي الثقيل والمتعب. يجلبون تلك الحقائب معهم لكي يفتحوها، ويسحبوا منها طعام الغداء، يتناولونه خلال استراحاتهم من الدماثة البلاستيكية. إنها حقيبة الكواليس، حقيبة القناع المخلوع. حقيبة صغيرة، لأن فترة اللاقناع وجيزة. ومستطيلة، لأن الوجه تحت القناع، يطول من قلة ما يُطلّ.

ربما أتمكن الآن من تحديد الشعور الذي يعتريني حين أشاهد موظفي المصارف ذاهبين إلى مكاتبهم، صباح كل يوم. إنه نوع من الضيق، ومردّه أن حقائبهم الصغيرة والمستطيلة تلك هي الوحيدة التي تضمن لهم التفلت من تمثيليتهم، ودماثتها. وهي الوحيدة التي، ولما يسحبون ما فيها لإلتهامه، تتيح لوجوههم أن تظهر بأفواهها. إنه شعوري بضيق تفلتهم، حيث الوجه مجرد فم، قبل أن يعودوا إلى طمسه، لحظة إقفالهم تلك الحقائب خاوية، منصرفين إلى جولة أخرى من التقنع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها