الإثنين 2018/07/30

آخر تحديث: 18:28 (بيروت)

خشب ورصاص

الإثنين 2018/07/30
خشب ورصاص
increase حجم الخط decrease
"ماما.. افتحي الباب". لا أنسى الجملة الكاملة الأولى لابني، والتي نطقها لأنه كان خائفاً من الباب المغلق، ولأنه صار في عالم آخر لا يراني فيه، فراحت دموعه تنساب على وجنتيه الصغيرتين. حملته وبكيت معه فرحةً بجملته الصغيرة.


الباب.. ذلك الحارس الذي لا نستغني عنه، ليحمينا ويحرسنا ويحرس أشياءنا وأحلامنا وذكرياتنا. خلفه يمتد العالم الخارجي بكامله، نغلقه لنختفي داخل عوالمنا الخاصة، تفاصيلنا اليومية، أحاديثنا، شجارنا، حُبنا، عُريّنا، دموعنا، وحقيقتنا الكاملة.

لا أنسى دموعي التي أخفيتها وأنا صغيرة لأن أبي قام بإعادة طلاء باب غرفتنا، ذلك الباب المهمل الذي يفصلنا عن الشرفة المليئة بالكراكيب. آلاف الكلمات كتبتها عليه بالطباشير الملونة. كنت أكتب وأمحو وأكتب، مرات ومرات، أنام ليكون آخر وأول ما أراه وكلماتي محفورة عليه. لكن مَن يبكي من أجل باب خشبي!

دائماً كنت أرى في الأبواب شيئاً يشبه أصحابها. فأراها حنونة أو قاسية، فظة أو لطيفة، شَغوفة أو كارهة. باب جيراننا كان يشبههم تماماً: أسود معتم جَلف لا حياة فيه، بدرفة واحدة كبيرة. تدق عليه، فتظهر وجوههم العابسة خلفه. لا يشبه بابنا الأبيض الخشبي بدرفتيه الصغيرتين ونقوشه الناعمة.

أبواب جوزيف حرب، كما غنت فيروز، تحزن وتبكي وتشتاق وتُهجر، تماماً كالبشر. اليوم، وبينما ننتظر كاسات البوظة، سألتني ابنتي ذات الست سنوات، عن الأبواب المرمية على الرصيف قربنا. بماذا أجيب طفلة في السادسة؟ كيف أشرح لها غنائم الحرب، وقُبح هؤلاء اللصوص، وهذه الحرب اللامنتهية؟!

أطل البائع من تحت الأبواب الخشبية العتيقة، المتكئة على الجدار، وهو يستظل بها، ليجيب أحدهم عن ثمن الباب: شو معك؟ سأل البائع الزبون. معي مخزن رصاص بتاخذ؟ هز البائع رأسه ساخراً وغير موافق، فلديه ما يكفي من الرصاص. ضحك أطفالي. لا أدري ما الذي فهموه، وهم يأكلون البوظة!

للباب خصوصية اللحظة، حين تقف أمامه لتفتحه، أو ليفتحه أحدهم لك، منتظراً ولوج عالمك الخاص، وأن تدير ظهرك للعالم كاملاً، وتغدو حراً تماماً. لكن غالبية أبوابنا باتت محطمة، مقتولة، مسروقة، تهتز وترتجف وتنهار، تنتظر أصحابها إذا نجت، تتألم لغيابهم وتحنّ لِلمساتهم وروائحهم. لم تعد الأبواب تحمينا ولا تحرسنا. كل ما تفعله الآن أنها تخفي دموعنا عن هذا العالم القبيح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها