الأحد 2022/10/02

آخر تحديث: 01:27 (بيروت)

الشجرة قد تبدو أيضاً سعيدة

الأحد 2022/10/02
الشجرة قد تبدو أيضاً سعيدة
increase حجم الخط decrease
كثيرة هي المشاهد التي تسجّل المشاعر الإنسانية وتحتفظ بها كتاريخ مؤقت يمكن استرجاعه. أصبحت ذاكرتنا المرئية عبر ملايين الصور، التي تلتقطها عدسات الكاميرات (سواء في اللحظات المثبتة أو المتحركة)، متاحة للاسترجاع بفضل التكنولوجيا. ذكاء الإنسان في استعادة ماضيه عبر قرص صلب، قد يعطب مثله مثل القرص العقلي المرن، لكنها حيلة جيدة للتغلب على معضلة الذاكرة.

فيما أشاهد الفيديوهات المتاحة في قنوات يوتيوب، يسوقفني رجل بابتسامة عريضة مع حركات انفعالية. لقد نجح في قلب طنجرة مقلوبة الباذنجان الكبيرة على صينية تحتها. أفكر عندها بمعنى هذه الابتسامة، الرضا، الفخر، سعادة بإنجاز ما. هذه السعادة الآنية تنقل لي نوعاً من الراحة، فأعيد مشاهدة ابتسامته وفخره بصينية المقلوبة مرات متتالية، فيما يمرّ أمامي شريط ملون للقطات متنوعة، لقطات من صلب الحياة، صِلتها الوحيدة هي لحظة سعادة.

فتاة تقفز في الشارع، فرحة، بعدما سمعت من دكان مجاور صوت أغنية أهداها إياها البارحة حبيبها. كاتب وجد حلاً لعقدة ما في رواية يكتبها، وهو يشاهد فيلماً في نتفليكس. رضيع نام نومة هادئة بعدما شبع من حليب أمه ودفئها. شاب حصد للمرة الأولى آلاف التفاعلات على منشور في فايسبوك وهو يقضي كل أوقاته في بيته وحيداً. مراهقة كتب لها معجبها السري رسالة مباغتة يقول لها فيها أنه يجدها جميلة. طفل استطاع أن يحمل أكياساً ثقيلة مع أمه فرآه الجيران وهنأوه على رجولته. مهاجر إلى بلد بارد تداهمه الشمس للمرة الأولة منذ اغترابه فتدفىء روحه. رجل اخترقت رائحة البن الطازج أنفه في مقهى، فتذكّر قهوة أمه الصباحية. يائس وجد في جيب سترته الشتوية منديلاً ذكّره بسهرة صاخبة. أو عائلة هربت على مركب صغير ووصلت إلى بر الأمان بعدما مات كل من كانوا يرافقونها.

تصبح الصور المستعادة واحدة من مسببات السعادة لدى الكائن البشري. قبل ظهور وسائل التواصل وثورة المعلومات، كانت الصور الفوتوغرافية، تلعب دورها في إنبات جذور السعادة داخل أرواحنا، إذ تستعيدك صورة للحظة سعادة ماضية مع الأسرة، الرفقة، أو الحبيب، تجعلك تبتسم من جديد، تبتسم مع نوع من الحنين لتلك اللحظات. أوتوغراف كتبه لك صديق كنوع من الذكرى، يعيدك اعوجاج حروفه إلى لحظة كتابته، وكم كانت الابتسامة لا تفارقكم. خطاب كتبته ولم ترسله، يصنع هذه الحالة من الابتسام اللحظي إزاء سذاجتك وقت كتابة حروفه.

تتعدد أسباب السعادة، لكن هذا النوع منها، المصحوب بالحنين، هو أجملها. يبعث في النفس شجوناً مختلفة، ويطرح سؤاله عن حقيقة هذه السعادة ومدى احتياجنا للحظة مشابهة. ويجعلك تفكر في صناعة المزيد منها، لأنها هي الحالة الإنسانية الوحيدة القادرة على رفد استمرار الكائن وحمله لاستكمال الحياة.

أفكر في شجرة تلونت أوراقها بأجمل الألوان، في اليوم الأول من فصل الربيع، هل هي سعيدة؟ مرآة اشترتها عجوز مسنة، وهما تؤنسان بعضهما البعض بعدما تراكم عليهما غبار السنين، من منهما أكثر سعادة؟ أو حذاء بشرائط سوداء يربّت ولد على جلده ممتناً لأنه سيصبح جزءًا منه. كلمة استعملها شاعر في قصيدة فنبضت عشقاً فاق رتابة الحروف. خطوات صغير يتعثر في حبوه الأول مع ضحكات عالية، فيما أمه تسجّل المشهد على هاتفها وتلتهمه بعينيها، من أكثر سعادة في المشهد، الطفل، الأم، أم عدسة الهاتف؟ تلفاز قديم برادار لم يعد له استعمال، اقتناه بفرح أحد محبي القطع الأثرية. نبتة صبّار أدهشت الريح بأزهارها النابتة بين الأشواك. بابٌ في قرية مهجورة، أمست سياحية بعدما نزف زيتاً بقدرة خارقة، فترك المؤمنون عليه بصماتهم.

هل يشعر الجماد بما نشعر. وهل يمكن أن يصبح سعيداً، أيضاً، للحظة؟ أم هي مخيلتنا في بحثها عن مسببات السعادة، تبدع إسقاطاتها على الموجودات؟

تلتصق هذه القطع، النابضة بجمال نادر، ببعضها البعض. تشكل لوحة جميلة في مخيلتي. أحضنها وأمضي.

أشعر أني أمشي على حبل رقيق. أجوب عليه الكون، كي أجمع المزيد من زبدة هذه اللحظات. فالسعادة ليست نادرة، كما يقال، إنما هي تكمن في غالبية التفاصيل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب