الإثنين 2022/08/15

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

أمومتي وأمومة أمي

الإثنين 2022/08/15
أمومتي وأمومة أمي
increase حجم الخط decrease
تتناقل الألسن الأمثال الشعبية، وتتوارثها الأجيال تلقائيًا، وكأن الزمن لا يتغير سوى بالتطور العمراني والتكنولوجي... ما أغلى من الولد إلا ولد الولد، مثل شعبي متوارث للأحفاد، فما بالكم بالحفيدة الأولى في العائلة.. هي ابنتي التي قلبت الموازين التي ربّتنا عليها أمي، وكانت كافية لأرى أن أسس التربية تختلف، بل ربما تُنسف في دلال الحفيد.

في تجربتي الأمومية الأولى، كأن أمي تختبر أمومتها مرة أولى، وكأنها لم تُربِّ ثلاثة أولاد وساعدَت في تربية أطفال كُثر في عائلتها. أذكر أول حمّام ل يَسمى، حين وقفت أمي تتفرج عليّ وتقول لي: أخاف ان أحملها فهي طرية جداً ووزنها لا يتجاوز كيلوغرامَين.. فما كان مني إلا إن أجيبها: "كيف كنتِ تحمّميننا وتحمّمي ولاد العيلة؟"، ليأتي جوابها: ما بعرف، مع يَسمى غير... وهي التي إستغربت قدرتي على إكمال حمّامها وحدي. وكأن المشهد يوصف: هي مستغربة بأني أُمّ.. وأنا مستغربة بأن أمي نسيت أمومتها مع طفلتي.

عندما إرتفعت حرارة يَسمى للمرة الأولى، إستنفرت أمي وفاقتني توتراً، طالبةً الإسراع في الإتصال بالطبيب، على عكس ما توقعت بأن ترشدني إلى سبل تخفيف الحرارة، كمّادات المياه الباردة أو خافض حرارة. أما المشهد المضحك، فحينما رافقتني أمي إلى الطبيب أول مرة لتلقيح إبنتي، فكانت أسئلة أمي أكثر من أسئلتي عن العوارض الجانبية التي قد تنتج عن اللقاح، وعندما همّت الممرضة بإعطاء اللقاح ل يَسمى طلبت أن نحمل الطفلة، ومن خوفي وإرباكي طلبت من أمي أن تحملها، لتسرع بالإجابة: لا ما بقدر، بخاف! من بعدها امتلكت الجرأة وكسرت خوفي أمام أمي التي كانت تأخذنا نحن أولادها الثلاثة إلى التلقيح، وهي التي إغرورقت عيناها بالدموع عند أول وخزة إبرة طالت جسد يَسمى.. فيما هممتُ لاحتضان طفلتي وتخفيف بكائها.

مجددًا هي مستغربة بأني أُمّ، وأنا مستغربة بأنها نسيت أمومتها، وكأني أنا التي أُعينُها في الإهتمام بيَسمى، لا العكس!

هي ليست المرة الأولى التي إكتب فيها عن تجربة أمومتي، والتي كانت عكس ما كنت أتوقع، على صعد عديدة، وأهمها النفسية.. لكني تنبّهت أخيراً أن أمي راحت تكتشف أمومتها مرة أولى أيضاً، مع حفيدتها... التربية على أيامكم غير، تقول. أتعجب، خصوصاً حين تسألني ما يفترض أن أبادرها أنا بالسؤال عنه، كطرق إطعام يَسمى وتحضير وجبات الأكل الأولى لها. كلما سألتها، تقول: اسألي الطبيب. وهل كان الطبيب، في زمانها، متوافراً طوال الوقت في العيادة ويرد على الهاتف والواتسآب؟ فكيف كانت تقوم وحدها بأمومتها من دون الاستعانة بأحد؟ والخبرة بعد الطفل الثاني والثالث؟

أمي دخلت العالم الإلكتروني بعد شهر من ولادة طفلتي. فمِن شخص رافض للهاتف، لشخص سارع إلى إقتناء هاتف ذكي، بتطبيقات واتسآب وإنستغرام، لتواكب صُور يَسمى، وتحدثني كل ساعة حين تكون بعيدة عني. ومع إكتشاف أمي للفضاء الإفتراضي، بات جوابها على إسئلتي، اسألي غوغل... لكني كنت أريد أجوبة أمي!

عندما قررت أن أُدخل إبنتي إلى حضانة الأطفال، في سنّ السنتين، عبّرت أمي عن رفضها الشديد، وقالت: حرام بعدها صغيرة.. وكيف لك قلب أن ترسليها في الشتاء والبرد؟.. والحقيقة أننا، أخي وأنا، أَشَهرَ طفلَين في العائلة إذ أدخلتنا المدرسة في سنّ السنتين وسبعة أشهر! وكلما رافقتني لإصطحاب يَسمى من الحضانة، سألتني: كيف هالوِلاد بتقعد بلا أهلها؟ طبعاً لا ضرورة للحديث عن تعجبي المتكرر هنا، وأنا في كل مرة أعيدها إلى عالمها الأمومي: كيف كنتِ تتركيننا بمفردنا في المدرسة؟ فنحن كنا في مدرسة جنوبية، تجاور جبل صافي، أحد أهم أماكن معارك "حزب الله" وإسرائيل، وكانت أصوات القصف وجدار الصوت والرصاص، ملازمة لدراستنا، ولم يكن في عصر أمي من وسيلة تَواصُل للاطمئنان علينا.. فيما أنا أُزوَّد بصُور لحظة بلحظة لابنتي، وأواكب يومها عبر تطبيق إلكتروني خاص بالحضانة.

التكنولوجيا تتطور، والمثال الشعبي يبقى هو نفسه عن ولد الولد الأغلى. لكن يبدو أن الأمومة تمضي العُمر تتشقلب كالبهلوانة، مع التقدّم في السن ومراحل الحياة... لدرجة أن تدعو "غوغل" إلى حفلات الأمهات المستمرة هذه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها