الجمعة 2021/06/25

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

لا تعُد مشياً على الأقدام

الجمعة 2021/06/25
لا تعُد مشياً على الأقدام
اللوحة: فاتح المدرس
increase حجم الخط decrease
لمَ لا نعود مشياً؟!! همسَت ابنتي الكبرى في أذني قبل أن نغادر منزل صديقتي التي حاولت منعي من القبول.
منذ مدة طويلة لم نمشِ في شوارع المدينة مساءً، سنمشي بسرعة ونصل قبل العتمة...
في لحظات الغروب الأخيرة، تبدو الأشياء أكثر وضوحاً ودقة.
امتزجت كلماتنا وتقاطعت حكاياتنا، أولادي وأنا، كان الهلال يرافقنا أيضاً من الغرب نلمحه حين نعبر طريقاً فرعياً أو في اللحظات التي تنخفض فيها الأبنية.

نسوة يجلسن مترقبات على الشرفات، في صف واحد، تتحرك رؤوسهن مع المارة حتى يتلاشوا تماماً من مجال رؤيتهن. رجال مسنون يلعبون الطاولة ويتكلمون بصوت مرتفع. صراخ أطفال منهكين من اللعب في الطرق. دراجات نارية مسرعة، وسيارات مُفيّمة تصدر أغاني تافهة. بدأت قدمي تؤلمني، لا حذاء يُباع هنا يَصلح للمشي، ولا حتى الطرق نفسها.

لدينا القليل من الوقت قبل أن نغرق في ظلام هذه المدينة. يمر أشخاص بملامح متشابهة، لحى كثيفة، عيون فارغة. أنقل حقيبتي لجهة الرصيف خوفاً من السرقة، نمسك أيدي بعضنا البعض جيداً ونغيّر ترتيبنا. أتذكر مقطعاً من أغنية "الجدار" لبينك فلويد "معاً نقف ومتفرقين نسقط". نقطع الطرق متلاصقين كواحد، تُفرقنا الحفر، الأرصفة المكسرة التي تختفي تماماً في بعض الأمكنة، مياه الصرف الصحي، الزبالة التي تحيط بالحاويات وتتناثر حولها لأمتار. تبدو المدينة الآخذة في التفسخ في الاتجاهات كافة، بلون واحد قاتم. أتذكر قولاً لغوته "نعلم كيف تُدار المدينة، وكيف تُحكم لمجرد خطوات نخطوها في طرُقها".

كم ينقص هذه المدينة من الألوان!! وكم ينقصها من المطر!!!

نمر بساحة "الشعلة". هنا تتقاطع طرق كثيرة. هنا مرت التظاهرات، آخرها كان تظاهرة "لأجل الهيب" لإيقاف القتل والخطف والسلب، لإيقاف الدماء المهدورة عبثاً، دماء الأبرياء، لمحاسبة الخارجين عن القانون الذين يعيشون بيننا. ارتفعت كلمات كثيرة لإنقاذ ما تبقى من أبرياء، لكن سحابة قاتمة من دخان الشيشة التي يطلقها الجالسون في المقاهي المحيطة، واللامبالون بكل ما يحدث، تلك السحابة كانت وستظل كفيلة بابتلاع كل الكلمات، وإطفاء كل الشموع التي أُضيئت لأجل الهيب. في الجانب الآخر، قصر العدل الذي يبدو مثل سجن بنوافذه الضيقة وجداره الطيني المتقشر، وعدالته البائسة.

تضيء صالونات حلاقة أو محلات للموبايلات، بين الأبنية المعتمة والمهجورة. يتوقف ابني فجأة ليلتقط شيئاً من الأرض، فرخ عصفور صغير ما زال حياً، لا أشجار حولنا!! يحمله فرحاً، ونمضي في طريقنا وهو يحدثنا عن العصافير.

يمر أحياناً أزواج من العشاق، دراجات نارية بسرعة جنونية يقودها مراهقون. تبدو المسافة أطول بكثير في العتمة، ولا نسمع سوى وقع خطانا يتكرر على الأسفلت المُحفّر. بالكاد نستطيع الرؤية الآن. وحشان اسمنتيان هائلان وفارغان يقفان متقابلين على زاويتي الطريق الصاعد نحونا. نبتعد مسرعين، نسد أنوفنا من روائح نفايات مكومة تحت الجسر تبعث على الغثيان وتغطي رائحة الخوف. تجاوزت الساعة الثامنة مساء، بدأ التعب يباعد كلماتنا، ولم نعد نقو على إنشاء جملة كاملة. ما زال ثلاثة عمال جالسين على حافة إسمنتية لما يشبه حديقة صغيرة ذابلة تتوسط ساحة "السير"، ينتظرون ويراقبون السماء، وراءهم خيَم مخيفة لأصحاب البسطات تغطي واجهات المحلات التجارية، ينتظرون. وما الذي بقي لانتظاره في هذا المكان من العالم؟ لا شيء سوى التكرار. تكرار للعتم والبؤس والغلاء، تكرار الانكسارات والخوف والموت.

وماذا لو علقنا "حقاً" في تكرار لا نهائي لحيواتنا؟ وفي هذا المكان؟!! أسأل نفسي. يقطع تفكيري صوت مكبرات الصوت الأربعة المثبتة فوق سيارة بيضاء، تُعلن عن جنازة جديدة، كما يحدث كل يوم. الصور الملونة للحملة الانتخابية ما زالت تمتد على ارتفاع الأبنية. تؤلمني قدمي أكثر، كدنا نصل، أقول لأولادي ولنفسي، ولا أسمع سوى أنفاسنا المتقطعة.

هاهو "طابور" الخبز يمتد لعشرات الأمتار نحو الشرق، ضجيج وفوضى، أولاد صغار يلعبون ونسوة يجلسن على الأرصفة منهكات من الانتظار. نعبر البوابة، يبدأ الرصاص بالهطول، أُدخل أولادي بسرعة، وأنظر من النافذة، سائق سيارة أجرة بلا نمرة هو الفاعل، يُغادر مستعجلاً، حاملاً معه ربطات خبز إضافية، خبز الآخرين. والطابور ما زال كما هو، لم يتحرك أحد إلا قليلاً... الانسحاب يعني أن تبقى أنت وعائلتك بلا خبز ليوم كامل، وأن تكرر الوقوف في طابور طويل يمتد لساعات أحياناً. أضيء "الليدات" وندخل للاستحمام، ربما تزول عنا آثار التعب وفوضى هذه المدينة. نُهيئ مكاناً دافئاً للعصفور الصغير، وقبل أن يغلبنا النعاس نتفق ألا نكرر مرة أخرى العودة مشياً على الأقدام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها