الأربعاء 2022/11/09

آخر تحديث: 17:06 (بيروت)

"إكستنشن" مايا دياب

الأربعاء 2022/11/09
"إكستنشن" مايا دياب
increase حجم الخط decrease
رأيت جدّتي تبكي "بعين واحدة". كان لجدّتي ناديا وجهٌ جميلٌ وشعر أسود طويل، ولطالما شعرتُ بعد رحيلها بضرورة العناية بشعري وعدم جزّه. فببعدهم عنّا، نرث صفاتهم المختمرة في ذاكرتنا ونبحث في وجوههم عما يساعدنا على استنساخ صورة منا، قريبة منهم، تشعرنا بالرضى والتعويض عن قسوة الفراق... كخصيلات شعر جدّتي المتبقية في درج أدويتها، أو تلك القماشة البيضاء التي غطوا بها وجهها فروت روحها بنفَس طويل كطول شعرها وأطفأت بريق دنياها بعين واحدة.

ودّعتنا جدّتي التي، منذ طفولتي، أسمع برصاصة طائشة لـ"ابن الجيران" أطفأت عينها. كان يلهو بمسدسه أمام منزله، وكانت جدّتي جالسة في أمان الله في الخارج، مطمئنة، تمتّع عينيها بشجرة الياسمين التي أزهرت أمام دارها. كانت حريصة على نباتاتها ونموّها، وكلّما فاحت رائحة أطباق الياسمين، كلّما أفرز جسد جدّتي عطراً يشبه حلاوة سكون وجهها... قبل أن يصطدم بدماء تلك الضربة التي تغلّبت على خلق الخالق، فهزّت الرصاصة غصن الياسمين ليخترق عين جدتي وطيب جسدها بجوار نباتاتها في الخارج.

لم تكن جدّتي صاحبة مزاج، ولم تكن من النساء اللواتي يخرجن للتسلية. لم تغادر منزلها سوى لزيارة الطبيب، أو الى شرفتها المطلة على الشارع للتواصل مع من يلقي السلام ويكمل طريقه. كانت امرأة "مغلوبة". اعتادت معاينة إصابتها أمام المرآة بحسرة، حتى مماتها، ومنعت عن نفسها حتى الشعور بالغضب تجاه من لوّث دارها بتلك الرصاصة وتلك الدماء. لم تكن جدّتي "خاضعة"، بل كانت متساهلة مع من سبّب لها هذا العذاب. كرهت وجهها وتاهت وسط مسكنّات الوجع، فتوّقفت عن مغازلة "صباها". حتى أنها استبدلت وهج هذا الغزل والبوح به، بكل معاني المرارة. عايشتُ مع جدّتي، وجهها "المشوّه"، ومرضها وتحاملها على حزنها، تلك المرأة التي غفرت للجاني رصاصته حتى قبل شفاء جُرحها.

لم أكن يوماً ممن يبحثن خارج دائرتهن المقرّبة عن "امرأة ناجحة". عندما تحدثني صديقتي عن مايا دياب، تحكي عن إمرأة مثيرة ومتألّقة، جميلة ومستقلة ومُغرية في شهرتها وطموحها وصيتها كمُناصرة لحقوق المرأة والمثليين. لكنها في نظري، مايا التي، بمظهرها، تخدم منطق "دَكَر صاحب نفوذ"، رغم تصريحاتها ضد النظام. مايا وزميلاتها، يروّجن لحياة باهظة التكاليف، كعملياتهن التجميلية التي توافق أغنية نانسي عجرم "شخبط شخابيط". مايا عالجت فوضى استباحة حقوق المرأة بـ"الاكستنشن" غالي الثمن.

لم يكن وجه جدّتي مطابقاً لأحلامها، صمدت بعين واحدة أمام نساء متبرّجات يشفقن على حالها. لم تكن جدّتي سعيدة بذلك العطف المتجبّر، لم تكن تتطلّع سوى لجسد حي يعاند تلك الرصاصة ويحرّرها من الشعور بالنقص. أنا أيضاً كنت مقصّرة، لأني لم أدرك حينها بأن وجهها المُصاب سيمدّني بكل هذه الثقة في جسدي اليوم. جسدي بعيوبه وتشقّقاته التي أصبحت غريبة عن الأجساد المنحوتة من أجل الصيف والكاميرا. نصف قوّتي اكتسبتها من نساء بسيطات، مُحافِظات، وأغلب الظن مُفلسات ومَكسورات. تعلّمت حماية جسدي من أمّي المتديّنة والمطلّقة. كانت تشاركني قصصها عن الرجال المتطفّلين، فاحتفظتُ بواحد من أسرارها الذي وجّهني وأعطاني درساً عن التحرّش وعن الرجل المطبّع مع مفهوم "المرأة جسد".

عندما غنّت شيرين عبد الوهاب أمام جمهورها بوزن زائد ووجه ممتلئ وقصة شعر كشفت من خلالها عن مدى استيائها وحالتها النفسية، كإنسانة ضعيفة، كانت على طبيعتها أكثر من أي وقفة سابقة لها على المسرح. اعتلت شيرين مسرحها وهي تعلم مسبقاً بأنها لن تكلّف نفسها عناء التستّر بالتبرّج المتكلّف وعمليات شفط الدهون والخوف من ألا تكون بالمواصفات المستحوذة على عقول معجبيها. توقف الجميع عند شكل شيرين، ليطالبها بتلطيف طلّتها ويعيد نشر صورها قبل أزمتها ومقارنتها بالحاضر. تناسوا أن هذه الفنانة المعروفة هي إمرأة باستطاعتها أن تتجاهل موضة الفيلتر وهوس معاصرة "الدارج"، ليأتي جديد شيرين صفعة لمنمّطي الفنّانات العربيات.

قبيح هذا الترويج بأن نساء التجميل أصبحن "قياديات هذا العصر"، رغم أنهن يخجلن من أمر مستحق، وهو التقدّم في العمر، يكذبن في تجاعيد وجوههن وبشدّ مؤخراتهن. كيف غاب عنهن أن الكاميرا والعين لطالما رغبتا في ما هو مألوف؟ وجه جدّتي مألوف، وسط كل تلك الوجوه التي ما عدنا نميّز بعضها عن بعض.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها