السبت 2018/01/06

آخر تحديث: 10:59 (بيروت)

كم من نباتٍ قتلتُه في بيروت

السبت 2018/01/06
كم من نباتٍ قتلتُه في بيروت
لوحة "الدفلى والكتاب" لفان غوغ (غيتي)
increase حجم الخط decrease

"الكرسي هو كرسي وإن لم يجلس عليه أحد
لكن الكرسي ليس منزلاً
والمنزل ليس بيتاً"
المنزل ليس بيتاً- ديون وارويك

يقولون إن البيت هو "حيث يقبع القلب"، يتحدثون أيضاً عن الحنين للبيت الأوّل. يعرّفه البعض بأنه معقل الدفء والحب، ويراه آخرون رديفاً للراحة والسلام. لكن لحظة، ماذا عن الصدمات الأولى التي تشهد عليها جدران المنازل بصمت؟ ماذا عن النحيب الذي تكتمه والآلام التي تخفيها خلف الأبواب المغلقة؟ تتناسى هذه الأقاويل الرومانسية أن جدران المنازل ليست حاضنة للحب فحسب، بل لكثيرٍ من الصراعات التي تجد في خصوصية البيوت ملاذاً لها. تجهل أن ترف الدفء أو النور ليسا في متناول الجميع، وأن بعض البيوت لا تصلها الكهرباء، وأخرى لا يدخلها ضوء النهار.

الجنوب: بيوت تغرق في الظلام
أمضى والداي عقداً في بناء منزلهم، ذلك الذي سيكون بيتهم عن حقّ، بعدما قضوا سنوات في الغربة يتنقلون بين منازل مؤقتة. أتذكر عملية المخاض المرهقة التي سبقت تشييد البيت. أذكر ساعات طويلة من الملل كنت أقضيها في السيارة بإنتظار أن تنتهي أمي من عملية شراء لوازم البناء. كانت الدقائق تمرّ كسنوات وأنا أمارس تمرين التنهد فيما تختار أمي بلاط المنزل، أو ألوان الدهان، أو معدّات الألمنيوم وتوابعها. كانت تتفحّص كل قطعة تنوي شراءها بدقة، تقلّبها ثمّ تعيدها لمكانها. تسأل عن سعرها، ثمّ تذهب إلى متجرٍ آخر لتقارن بين الأسعار. أما عملية المساومة، فموضوع آخر. كانت أمي كابوس كل صاحب متجر، المساوِمة الشرسة التي تجهد التاجر نفسه.

لم أكن أفهم لماذا كل هذه الجلبة. هل يستحق هذا البيت إستثمار أمي لكامل طاقتها ووقتها في سبيله؟ كنت أتذمّر كثيراً من فترات الإنتظار الطويلة، فالصبر لم يكن يوماً من شِيمي. وفي أحد مشاوير التسوق القسرية التي كنا نبغضها أنا وأخي، منحتنا أمي شرف إختيار بلاط حمامنا الخاص. كدت لا أصدق حينها، وأصبحت أنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي تجهيز الحمام كي نرى الشخصيات الكرتونية التي إخترناها لجدرانه. وحتى هذا اليوم، بقي هذا الحمام أكثر ما يربطني بذلك البيت.

أما سائر غرف البيت فلم تكن بالدفء نفسه. كانت قريتنا باردة في الشتاء، وخيارات التدفئة ليست كثيرة. أما الكهرباء، فكانت تنقطع لأيامٍ متواصلة أحياناً، ولم تكن مولدات الكهرباء دارجة كيومنا هذا، كما أن المولدات الخاصة كانت رفاهية تتمتع بها قلّة من سكان المنطقة. لقد عشت "كليشيه" الدراسة على ضوء الشمعة، فكنت أفكّر في أطفال أوروبا وأحسدهم على عدم إضطرارهم لخوض هذه التجربة المظلمة. قطعت حينها وعداً على نفسي بألا أحرم بيتي المستقبلي من النور الكهربائي ولو لثانية واحدة. كنت أجلس في عتمة الشتاء وأرسم في رأسي أحلاماً وردية عن البيت الدافئ الذي سأملكه مستقبلاً.

لم يكن بيتي وحده يشعرني بالعزلة، بل معظم المنازل. ترعرعت في قريةٍ جنوبية تستتر غالبية بيوتها خلف ستائر الشرفات العازلة للنور والعيون. بيوت مظلمة لا يدخلها ضوء الشمس خوفاً على حشمة النساء المحجبات داخلها. أذكر بالأخصّ منزل جيراننا أسفل بنايةٍ تحت الأرض. لم يكن يبدو لي منزلاً بقدر ما كان مخبأً للنساء الأربع اللواتي يسكنّ فيه مع ذكور العائلة. كلّ شيءٍ في داخله بارد ورمادي، حتى العلاقات التي تحكمها قوانين دينية صارمة. لم تكن الموسيقى مسموحةً في هذا البيت ولا البرامج الكوميدية. أما جدرانه، فكانت مكسوّة بآياتٍ قرآنية أو رموز دينية لا غرض منها سوى تذكير سكّان هذا البيت بالجنة المنتظرة، أو لهيب النيران إذا ما إختاروا الدفء على حساب الحشمة. لم يكن ذلك المنزل بيتاً، بل ممراً بإنتظار إرتحالهم إلى بيتهم الأبدي، حيث سيعيشون برفقة "أهل البيت". قطعت على نفسي وعداً بألا أسكن سوى بيت يسبح في نور الشمس، بألا أسدل عليه يوماً عباءة الظلام.

بيروت: مساكن مؤقتة
لما حان أخيراً موعد إنتقالي إلى "بيتي المستقبلي"، كنت قد نسيت كل الوعود التي قطعتها على نفسي. أول غرفة إستأجرتها في شقة مكتظة في شارع الحمراء، كانت بنافذة واحدة يقابلها جدار المبنى المحاذي. لم يدخلها خيط نور أو نسمة هواء. "لا بأس"، قلت، فهذه الغرفة ليست سوى محطة سأنتقل منها إلى بيتي المستقبلي.

لكن ما لم أكن أعرفه هو أنني سأمضي السنوات اللاحقة في الإنتقال بين منازل مؤقتة. أصبح الإنتقال بالنسبة إليّ تمريناً على الأمل. في كلّ مرة أشعر فيها باليأس أو الغربة عن المحيط الذي أعيش فيه، أذهب للبحث عن بيتٍ جديدٍ يحويني، علّه يمسح أثر الخيبات التي أفضيت بها إلى جدران البيت السابق. "سأختار البيت المناسب هذه المرة"، أقول لنفسي في بداية كلّ رحلة بحث. تمدّني فكرة الإرتحال هذه بقوة تفاؤل غير مألوفة، توقعني مرة جديدة في فخّ حياكة أحلام البيت المثالي. وفي غمرة الحماسة، أرى في كلّ شقة بيتاً محتملاً لي، بكلّ ما فيها من شوائبٍ وعلل لا أراها سوى عقبات صغيرة.

أعزم على إصلاح أي خلل، مهما كان صغيراً. أخطّط لحديقة من الزهور والنباتات في الشرفة الصغيرة. أشرع في شراء العشرات من النباتات، بكلّ الأشكال والألوان، وأملأ بها الغرف التي تعاقب عليها مستأجرون كثيرون قبلي، من دون أن يتركوا فيها أثراً منهم. كلّ ما تركوه لي، أعطال وشوائب ينبغي عليّ إصلاحها. وبعد فورة التفاؤل الوهمية، تبدأ الشوائب بالتضخّم. أشعر كأني سائح قضى وقتاً أكثر من اللازم في مدينةٍ ظنّها جميلةً في البداية، حتى بدأت تكشف عن أنيابها. منازل المدينة لا تختلف كثيراً عن مجاريها، هي فقط تخفي نفاياتها، وتصدّر فوضاها إلى الخارج. أمّا منازل بيروت بالذات، فهي إنعكاس للفوضى التي تعمّ بنية المدينة التحتية، ونسيجها الاجتماعي. أدرك حينها أن بيروت بأكملها ليست صالحة لأن تكون بيتاً. بيروت مسكن مؤقت وليست بيتاً. لذا فما الفائدة من منحه أي حياة ستسلب مني بعد فترة قصيرة؟

أكفّ عندها عن الإعتناء بالنباتات. وقد أصبحت الحديقة المزعومة رمزاً للخيبات المتكرّرة التي عصفت بي في بيروت. لقد تحوّل حلم الحديقة تدريجياً إلى لوحةٍ من الأزهار الذابلة، تحيا حياةً مؤقتة مليئة بالمعاناة. أنظر إليها وأشفق. لكني أعود وأقنع نفسي بأني أقدّم لها خدمةً بتخليصها من حياةٍ في بيروت. أشعر بالذنب حين أراها تتضرّع لي لكي أرويها، لكني لا أجرؤ على قتلها دفعة واحدةً، أشيح بنظري وأغلق عليها الأبواب وأنزل الستائر. أغرق في الظلمة وأدعها تموت بعيداً من ناظريّ. أقطع على نفسي وعداً بألا أزرع نبتة أخرى في بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها