الثلاثاء 2018/12/11

آخر تحديث: 19:37 (بيروت)

منتصرون في الحرب.. وخائفون

الثلاثاء 2018/12/11
منتصرون في الحرب.. وخائفون
منطقة بئر العبد خلال حرب تموز (غيتي)
increase حجم الخط decrease
إسرائيل تبحث عن أنفاق لـ"حزب الله" بمحاذاة الحدود الجنوبية للبنان. لا يمكن لأي جنوبي سمع هذا الخبر إلا أن يعود بذكرياته إلى الحرب الأخيرة. أنا كنت سعيداً في الحرب، لا بل أستطيع القول بأن ذلك الشهر، تموز 2006، كان واحداً من اجمل الفترات التي عشتها.

كنت أسكن وحيداً في بيروت. وخلال الحرب، نزح أهلي من الجنوب مع مئات الآلاف غيرهم. إستبدلتُ المنبه بصوت أمي لكي يوقظني في الصباح. واختفت المناقيش من أفران غلاييني ليحل محلها إفطار القرية اللذيذ كما تعده امي صباح كل يوم. كما أن المنزل الذي سكناه في منطقة المصيطبة كان قريباً جداً إلى مكان عملي في كورنيش المزرعة. الوداع للفانات واهلاً بالنزهة الصباحية إلى العمل.
استعضت عن الطعام الجاهز من المطاعم بزاد آخذه معي، بالإضافة الى بعض الفواكه. كذلك، مع نزوح الأقارب والأصدقاء من الجنوب، بات للحياة في بيروت وللسهرات المسائية طعماً آخر. 

وكان لوجود آلاف النازحين بالقرب منا، فرصة لبناء علاقات جديدة وقضاء وقت مسلٍّ في الإستماع إلى قصصهم. كانت المساعدات تأتي من كل مكان. لم يكن هناك داع للعمل، الطعام مجاني، مساعدات غذائية ومالية تأتي كل يوم من جهات مختلفة، الأدوات المنزلية والملابس ومستلزمات الاطفال لا تنقطع. 

أذكر سعادتي في الحرب. لكن هل كانت اوقاتاً جميلة حقاً؟ هل كان الجميع سعداء وهم الآن في انتظار الحرب المقبلة بفارغ الصبر؟ 

أفتح "تويتر" فأقرأ تغريدات تهدد بإزالة إسرائيل، وأرى شباناً متشوقين لخوض غمار حرب كان لها وجه مؤلم لا نذكره في وسائل التواصل، لكنه حاضر في كل جلسة مسائية في الجنوب منذ 12 عاماً وحتى اليوم. أعتقد أن الرجل حين يتعرض للكمات، لا يشعر بشيء، لكن الألم كله يبدأ حين ينتهي العراك.. وهكذا هي الحرب. 

عندما انتهت، بدأنا نشعر بقسوتها، نحن الذين لم تصب عائلتنا خسائر في الأرواح. باتت الطريق إلى الجنوب عبارة عن معاناة تستمر لساعات، بعدما كانت تستغرق ساعتين. سبع ساعات نقضيها في السيارات لنلتف في طرقات فرعية حول الجسور المهدمة. التغذية الكهربائية انقطعت كلياً، ثم بعد أشهر، بدأنا نحصل على ساعتين يومياً. الذين تهدمت منازلهم باتوا يعيشون في خيم. 

نحن، المنتصرين في الحرب، كان علينا أن نعيش في خيمة بلا كهرباء، بلا تدفئة.. ولم تكن التعويضات التي تدفقت على المتضررين كافية لتخفيف معاناتهم. الخيمة بقيت خيمة، من دون كهرباء، وكان لزاماً علينا أن نقضي فيها أشهر، عدا عن أن التعويضات كانت غير كافية وغير عادلة في بلد ينعشه الفساد والسرقة.

جزء كبير من الناس خسر أعماله. تهدمت محالهم التجارية أو ماتت مواشيهم أو تضررت مزروعاتهم. لهؤلاء معاناتهم الخاصة. فقد بدأت الأسعار بالإرتفاع بشكل جنوني. أصحاب روؤس الأموال استفادوا من الحرب. فقد تسلم هؤلاء مهمة إعادة الإعمار.

أما المعدمون، فكانوا يرزحون تحت فقرهم وأحياناً يُسرَقون. بدأت السرقات في الجنوب بالإرتفاع. نحن، المنتصرين في الحرب، كان علينا اللجوء إلى السرقة لكي نعيش. أخبرني صديقي بعد أعوام على نهاية الحرب، أنه من سرق كابلات الكهرباء في القرية. أضحك. 

في بيروت لم يكن الوضع أفضل حالاً. كانت زحمة السير في ضاحية بيروت الجنوبية لا تطاق. ساعات عديدة أقضيها يومياً لأنتقل من الضاحية إلى بيروت، منها ساعة كاملة عند جسر المطار. ارتفع سعر كل شيء. إيجارات المنازل بشكل خاص، بعدما دمرت اسرائيل الكثير من أبنية الضاحية.

كان هناك شحّ في المنازل. استغل المالكون الوضع ليرفعوا أسعارهم، أما ما تم بناؤه بعد ذلك فكان من حصة المغتربين. أصحاب الأموال الذين كانوا بعيدين عن الحرب، لم يجزعوا لسقوط قذيفة بالقرب منهم، لم يشموا رائحة عرق الرجل الغريب الذي يشاركهم الغرفة في مركز لإيواء النازحين، ولم يتشاجروا من أجل حصة غذاء إضافية. أما نحن، المنتصرين في الحرب، فلم نجد من يحمينا بعدها، لم نجد منزلاً يأوينا. 

في ريبورتاج عن أوضاع النازحين من داخل إحدى المدارس، قالت عجوز مخاطبة المراسلة وكانت شديدة التأثر: "نحنا بيوتنا كتير حلوة يا بنتي ومرتبة، والله يلعن يللي وصلنا لهون".

أذكر آلاف النكات التي تداولناها عن أشخاص نعرفهم. قالوا الحقيقة عن تلك الحرب للمراسلين. تحدثوا عن الخوف والبؤس أمام الكاميرات. لكن مقابلاتهم لم تبصر النور، تم اقتطاعها وخضعت للمونتاج. 

منتصرون ونحب الحرب والموت، شئنا أم أبينا، لكن الحقيقة أننا اليوم خائفون من الحرب ولطالما كنا كذلك. حين أفكر اليوم في الحرب، لا أكترث لنفسي، هي بالنسبة إلي مثل مشاهدة كلاسيكو ريال مدريد وبرشلونة. لكني افكر بالمرأة العجوز في مخيم النازحين، بأمي وأبي وهرتين سيحملانهما برفقتهما من القرية إلى بيروت. أفكر في ذلك كله، وأخاف. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها