الجمعة 2022/03/04

آخر تحديث: 14:59 (بيروت)

..وأنت مع مَن؟ عَطيّة أم ناطورة المفاتيح؟

الجمعة 2022/03/04
..وأنت مع مَن؟ عَطيّة أم ناطورة المفاتيح؟
increase حجم الخط decrease
"زاد الخير، انطِري البيوت، انطِري المفاتيح، بالزمن التاني. زاد الخير، إنتي صرتي، وحدِك صرتي، ناطورة البيوت، ناطورة المفاتيح".

نهضَ من كرسيّه وأسكَت الأسطوانة. عاتَبَ صديقَه الجالس قبالَته وخاطبه: "لماذا تريدني أن استمعَ معك مجدّداً إلى هذه المسرحيّة؟".

-أوّلاً، لأنّها المفضّلة لديّ بين كلّ مسرحيّات الرحابنة والسيّدة فيروز. وثانياً، لأنّها تُحاكي واقعَنا المرّ الراهن، وتهُزّني من الداخل في كلّ مرّة أصغي إليها. ليتَها تفعلُ بك ما تفعلُه بي. وليتَ عدوى هذا الفِعل تصيبُ كثراً ممّن يُكابدون آلاماً يوميّة لا يستطيعون شيئاً حيالها.

- بِربِّكْ، ماذا تفعلُ بك "ناطورة المفاتيح" غير الاستِمْتاع بموسيقاها وأغنياتها؟ إذا كانت تحضّك على الرحيل كما فعَل شعب "مملكة سيرا" نكايةً بالملِك الجائر، فلماذا أراك متمسّكاً بالبقاء، ولم لا تتوسّل الهجرة على غِرار ما فعلَ كُثُر؟ الميسورون مِنهم قصدوا المطار وركِبوا الطائرة. والفقراء باعوا كلّ ما تبقّى لهُم، وجازفوا بِركوب الأمواج، ودفعوا الثمن إمّا حياتهم، وإمّا عودةً ذليلةً إلى جهنّم.

- لستُ طبعاً في وارد المغادرة، حتّى لو استطعت. القضيّة بالنسبة إليّ ليسَت أن أختار بين البقاءِ والرحيل، بل أن أستمدّ من هذا العمل المسرحيّ، الرائد في فكرته وفلسفته، غذاءً روحيّاً يُعينُني على التحمّل والصمود، مهما اشتدّت الآلام وتوالَت النكبات.

- طوباويّة بريئة لا تَصلُح لهذا الزمن المُجرم. يا رجُل، فكِّر في طريقةٍ تُغذّي بها جسدَك وتستَجيب حاجات معدتِك، واغلِقْ على غذائِك الروحيّ المزعوم في زجاجة، وارمِها في بحرِ بيروت المُتحالف مع الحزن، علّها تُواسي أرواحَ ضحايا الرابع من آب.

قالَها وعادَ إلى كرسيّه حاملاً غلافَ الأسطوانة. أنْعَم النظر إلى الغلاف وجرّب أن يبتسِم، ثمّ بادَر صديقه: "أتعلَمْ؟ كِدْتُ أحفَظ هذه المسرحيّة عن ظَهْر قلب لشِدّة ما استمعتُ إلى حواراتِها وألحانها. كان ذلك قبل أن نسقطَ جميعاً في هذه الهاويةِ السحيقة. لا أُنْكِر أنّ فكرة رحيلِ الشعب برُمّته انتقاماً من جَوْر الملِك لا تزال تأسُرني، لكنّ انتهاءَ الأمور بمصالحةٍ بين الطرفين يُنَفّرني ويُزعجني، وخصوصاً في ظلّ حالتِنا الحاضرة، وما آلَ إليه اللبنانيّون على أيدي حكّامهِم الكَفَرة. يستوقِفُني هنا الحوارُ الأخير بين "زاد الخير" والملِك. كان ينبغي أن تلْحَق بالآخرين ولا تأبهَ لتوسّلاته. كان ينبغي أن تنضمّ إليهم، وتتركَه يُكابِد سقوط تاجِه المُرصّع بالظُلم والاستِهتار بمَصير الرعيّة. رسَم الأخوان رحباني في زمنِهما نهايةً مضيئة. كرّسا المصالحة بين مَن هو فوق ومَن هم تحت. راهَنا على ضميرٍ يَفيقُ لدى ملِك، كان يَمْقُت مجرّد ذكرِ هذه الكلمة على لسانِ حكيمِه "جاد". لكن رغم كلّ ما اختزَناه من خيالٍ خَصب، لم يمرّ في بالِهما أنّ حكّام لبنان سيَغْدون على هذا القَدْر من السفالةِ والدناءة، وسيُشيّعون ضمائرَهم إلى مثواها الأخير، ويُطبّلون ويُزمّرون على جثّة شعبهم".

- تُريد أن تُشَقْلِب النهاية إذاً لتصبح لائقةً بما نحن فيه.

- لئِن كنتُ عاجزاً عن تغييرها في الأسطوانة، فإنّني قادرٌ على الأقلّ على تغييرها في ذهني وخيالي. أريدُ لأهالي مَمْلكة "سيرا" أن يرتحلوا وألّا يعودوا. أريدُهم مثلَ "عَطيّة" الذي غادرَ منزله الرَّث ولم يرجع إليه، بل لِنَقُلْ تركَ حياته القديمة بكلّ مراراتِها في ذلك المنزل، وخَطّ لنفسِه حياةً جديدة.

- ومَن "عَطيّة" هذا؟

- إنّه الكبير يَحْيى الفخراني في رائعة المخرج محمّد خان السينمائية "خَرَجَ ولم يَعُدْ". شابٌّ جارَ عليه الدهر فقراً وهَواناً وأفُقاً معدوماً، وإذ بشُعاعٍ خافِت ينبَثقُ من الظلام العَميم. تَنصحُه جارتُه العجوز بأن يبيعَ ثلاثة فَدادين ورِثها من أبيه. هكذا، يصبحُ قادراً على الانتقال إلى شقّة جديدة، كما اشترطَت عليه خطيبتُه وأمُّها الشَمْطاء. يقصدُ الريف الذي لم يطأهُ طوالَ حياته لإتمام الصَفقة، ويكتشفُ هناك عالماً آخر بكلّ المقاييس، محورُه "كمال بك" (فريد شوقي) وعائلتُه. رجلٌ غريبُ الأطوار، لا يحمل قرشاً واحداً في جيبه، لكنّه يحيا من خيراتِ فدادينِه المترامية. في تلك البُقعة الساحرة، يُصادف "عَطيّة" شمساً مِغْناجةً لم يألَفها، تَستلقي على الحقولِ كلّ صباح. يُعانق هواءً جديداً، يتراقصُ على سجيّته، بعيداً من زنازينِ الإسمنت التي التهَمَت المدينة. يتلذّذ بأطباقٍ "عذراء"، لم تُفسدها مُكوّناتٌ اصطِناعيّة دخيلة. والأهمّ، أنّه يتحرّر من حبّه الزائف، ويقَع في مِصْيدة "خيريّة" (ليلى عُلوي)، ابنة "كمال بك"، سائقة الجرّار الزراعيّ صباحاً، ومُدمِنة تغريداتِ الكَرَوان مساءً.

- عظيم، هل أفهمُ من هذه الحكاية المؤثّرة أنّك تدعو جميعَ إخوانِك في المواطنيّة إلى "رَوْحة بلا رَجْعة" اقتِداءً بصديقِك "عَطيّة"؟ تَذَكّر أيضاً أنّه لم يهجُر بلاده، واكتفى بالانتقال من المدينةِ إلى الأرياف.

- دَعْكَ من التفاصيل. أعلمُ أنّ كُثراً، وأنت وأنا منهم، لا يستطيعونَ للهجرة سبيلاً. سنظلّ قابعينَ هنا، نحلُم ونحلُم ونحلُم. بعضٌ منّا يحلُم بوطنٍ بديل، وبعضٌ آخر بوطنٍ جديد. لقد سرقوا منّا كلّ شيء … إلّا الحُلُم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها