الخميس 2017/10/26

آخر تحديث: 15:11 (بيروت)

بيروت التي بلا خريف

الخميس 2017/10/26
بيروت التي بلا خريف
شجر بيروت.. في واجهات المحلات
increase حجم الخط decrease

ريوتان يطفئ الشمعة
يُحكى أن المعلّم البوذي تسوكان، حين كان لا يزال تلميذاً لدى ريوتان، زار أستاذه قبيل غروب الشمس، وأخذ يطرح عليه الأسئلة واحداً تلوَ الآخر، حتى وقت متأخر من الليل، إلى أن أجابه المعلم "ربما حان الوقت لتعود إلى منزلك". ففتح تسوكان الباب ليجد أن "الظلام قد غمر الدنيا في الخارج"، فأشعل ريوتان شمعة. وحين مدّ تسوكان يده ليأخذها، قام أستاذه بإطفائها. في تلك اللحظة أدرك تسوكان كلّ شيء.


هذه القصة البوذية القديمة تُصوّر لحظة تنوّر تسوكان، تلك اللحظة التي حضّه فيها أستاذه على إكتشاف النور الكامن في الظلام، وما هو معاكس لذلك، أي التوازن بين النور والظلام. لذا، تحتفل الطائفة البوذية، بما يُطلق عليه الـ"إيكوينوكس" الخريفي، أي اليوم الذي يتساوى فيه الليل مع النهار، منبئاً بوصول فصل الخريف. فيما يُدعى هذا العيد الاحتفالي بـ"هينغا"، الذي تعرفه اللغة اليابانية بـ"الشاطئ الآخر"، ويرمز هذا "الآخر" إلى عالم الموتى، وهو ما يُفسّر سبب قيام البوذيين بزيارة مقابر موتاهم ليتقاسموا وإياهم "بركة" الموت، على حدّ إعتقادهم.

مع وصول الخريف، يستذكر البوذيون أسلافهم، لكن هذه الذكرى هي وعد بالحياة والتجدّد. فمع خفوت شمس آب، تتجلّى للإنسان ملامح الموت. ومع تعرية الرياح للأشجار، يجد نفسه محدّقاً فيه، مقراً به، ومسلّماً له كجزء من دورة الحياة. فالخريف يتجلّى لحظة إنطفاء شمعة ريوتان التي أضاءت درب تسوكان، ولحظة سقوط الأوراق ونضوج الحصاد، فيما تبرز معالمه في بيولوجيا الكائنات الحية التي تنساق إلى إيقاعه، الآخذ بها نحو تهيئتها لموسم البرد، ما بين تخزين الأجساد بالحرارة وازدياد فرو الحيوانات كثافة.

بيروت الرمادية
يمرّ شهرعلى الإيكوينوكس. أخرج إلى شرفة شقتي في بيروت، باحثةً عن الخريف، في محاولة لإلتقاط صورة سريعة له قبل إنقضاء شهر تشرين الأوّل. لكن الشمس ما زالت ساطعة، والجوّ حارّ. أما أوراق الخريف الصفراء، فلا داعي للبحث عنها، إذ لا تعرفها شوارع بيروت. أقف في وجه أشعّة الشمس، ويقودني حنين إلى أيام الخريف في طفولتي، وكنت أقضيها في قريتي الجنوبية، حيث الرياح تُلاعب أوراق الشوارع الصفراء، مثيرة في داخلي الكثير من الميلانكوليا الطفولية المرتبطة بالعودة إلى المدرسة. أغمض عينيّ، محاولة الإبقاء على تلك الذكرى كي لا تفلت سريعاً من مخيلتي، ومتمنيّة أن تمرّ سحابة وتخطف في طريقها الشمس ولو لبغتة، كي أبقى حاضرة في طفولتي ومشهدياتها الخريفية.

وكأنما إستجابت آلهة الريح لأمنيتي، إذ خفت ضوء الشمس فجأة، متوارياً وراء الغيوم، تاركاً وراءه دنيا بلونٍ رمادي، دونما أي اصفرار يعكّر صفو الجوّ والباطون والطرق، حتى آل المشهد إلى رمادي يُغازل الرمادي. فأين ألوان الخريف؟

إستجابت شمس بيروت لأمنيتي، فقدمَت لي صورة للموت من دون وعد بالتجدّد. فالباطون سيظلّ باطوناً، والألوان لن تتغيّر سوى في الأحياء الأوفر حظاً، أي في الواقع الأوفر مالاً. تلك التي  تغدق على سكانها بعض الأشجار.

أعود إلى غرفتي، وأوصد باب الشرفة خلفي كي أحبس أصوات ورشة الباطون "المتجدّدة" خارجاً. أدير مكيّف الهواء، واستمع لأغنية Autumn Leaves، فيما يتعزز يقيني بأن الخريف الوحيد الذي سأحياه هذا العام هو صوت نات كينغ كول ليعوّض عليّ بعضاً مما أفتقده في خريف بيروت. أرفع صوت الموسيقى وأبدأ بتحضير جِلدي للموسم الآتي.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها