الإثنين 2019/10/07

آخر تحديث: 15:47 (بيروت)

الحياة في مكان آخر

الإثنين 2019/10/07
الحياة في مكان آخر
(غرافيتي بانكسي)
increase حجم الخط decrease
في الحلم، يبدو كلّ ما حولي مصفراً باهتاً وغريباً. أُعيد الإتصال بطبيب لا أعرفه، إلا أن طفلة رضيعة تظهر فجأة، تلتصق بي فلا أقدر على إبعادها. أتابع محاولة الإتصال.. وحين يجيبني الطبيب، أعجز عن الكلام.

في الصباح، اتصلت بالطبيب مرات ومرات، كما في الحُلم، ولا مجيب. يُفتح باب غرفة العمليات، ويُغلق، مراراً، وأنت في الداخل.

الوجوه متشابهة، البهو معتم، السقف منخفض. ينفتح الباب مرة أخرى، ولم تكن أنت، بل تلك المولودة الجديدة التي جاءتني في الحلم. يحتشد العشرات حولها فرحين، يتبادلون التهاني والقُبل، ومعلوماتهم الفلكية حول برجها وطالعها ومستقبلها.

منذ تسع سنوات، وفي مثل هذا الشهر، وُلدتَ أنتَ أيضاً. وتعرف جوابي على سؤالك الدائم وابتسامتك الساحرة: "شو أكثر شهر بتحبيه؟". الآن، لا أستطيع الجلوس ولا الوقوف، ودموعي تمنعني من الرؤية. ألتصق بباب غرفة العمليات، لعلي أدرك لماذا تأخّر خروجُك.

قبل ذلك اليوم، لم أكن أعرف كم أنا هشة وقابلة للانكسار. انهار العالم بأكمله أمامي وأخذ يتشكل مرة أخرى، مشوشاً، ولم يعد واضحاً أبداً.

وأخيراً خرجتَ.. وفي الغرفة التي نقلوك إليها، أبحث عن فيلم كرتون في التلفاز لأبعد عنك الصوت العالي للأغاني التي تضايقك والتي يلعبها "دي جي" مفتتحاً محل الألعاب القريب.
لكن، لا شيء سوى "الإخبارية السورية".

لا صابون في الحمّام، ولا مناشف ولا تكييف في الغرفة، وكان الجو حاراً يومها. المروحة تبعث تياراً قوياً من الهواء، فأوقفها خوفاً على جسدك الصغير الذي لا يزال تحت تأثير المخدر.

تهتز الغرفة مراراً. لا داعي للخوف. ليست براميل ولا قنابل، بل مفرقعات تنتشر كوَباء، ويبيعها أطفال في عمرك في كل مكان، حتى على باب المستشفى.

أُثبّت جسدك الصغير. المُخدّر بدأ بالتلاشي، وبدأ الألم الذي سيرافقك شهوراً، وسيرافقني عمراً. كل ما حدث سيتحول صوراً باهتة بعيدة: سقوطك عن دراجتك الهوائية الجديدة، التي فرحت بها كما لم تفعل من قبل. إسعافك للمشفى الوطني. انتظارنا لنكتشف أن لا طبيب مناوباً، كما هي العادة. انتقالنا إلى المشفى الخاص الذي لا يختلف سوى بفاتورة الخروج. ثم انتظارنا لساعات إضافية من الألم، قبل دخولك غرفة العمليات.

انتظاري ساعتين في الخارج، كان كافياً لتحطيم قلبي، كما تحطّم مرفقك الصغير.

أشعر بالذنب أحياناً لأني أنجبتك في الزمان والمكان الخاطئين، حيث لا قيمة للإنسان. هنا، كلما مرّ الزمن، على عكس الأشياء التي تُشكلها بيديك لتزداد جمالاً، يزداد هذا المكان تعاسة.

تندفع المياه من غرفة الأشعة، حيث عشرات المرضى يقفون في انتظار دورهم. يبتعد الناس عن امرأة تنظف غرفة التصوير، في أكثر أوقات النهار ازدحاماً. تزداد الأرض اتساخاً، وتتشكل بقع غريبة من الوحل. موظفان يلعبان "التريكس" على الكومبيوتر، وامرأة تقوم بالعمل وحدها مُتذمرة. نمشي معاً في الممرات المعتمة بانتظار دورنا أنا وأنت، ووجعك.

هذا المكان نسخة المصغرة عن حالنا: العتمة والضياع والقلق. جدران باهتة، أسرَّة ممزقة، سلال مهملات مفتوحة، وجوه المرضى البائسة ولا تعرف إن كانت خائفة من الموت أو من هذه الحياة.

لا تستطيع ذاكرتي أن تمحو مشهد القطط التي تتمشى في الممرات وتبحث في سلال القمامة الموضوعة على أبواب غرف المرضى منذ سنوات.. الذباب وروائح البول والحمّامات الملوثة.

هنا تشُم رائحة الضعف والخوف والموت، يُعامل البشر بازدراء، يُتاجَر بهم، يُباعون ويُشترون. وتُباع الأدوية المفترض أنها مخصصة لهم "مجاناً"، وكل ما يصل من تبرعات ومساعدات، ليعيدوا شراءها من الصيادلة الأكثر جشعاً من التجار.

هنا يتقاضى الأطباء، ومنذ سنوات، ثمن عمليات من المفترض إجراؤها مجاناً. يموت البشر بسبب الأبر الملوثة، ويستأصلون اللوزات للأطفال الذين يعانون من الناميات، كهدية مجانية!

هنا لا يُحاسَب الأطباء ولا الممرضون، ويُعامل المرضى وكأنهم متسولون. هنا تلتصق غرفة العناية المشددة بالباب الخارجي، ويموت البشر بداء الكَلَب لأن اللقاح الذي أنتجه باستور منذ العام 1885 غير موجود.

ها أنت تخرج من غرفة الأشعة، وتسألني رغم الألم: "ممكن كل شي عم يصير حلم؟!". ورغم شدة الشمس في الخارج، كنت أحس بالبرد وبالفراغ وبالخوف. نمشي معاً مبتعدين. وحدها يدك الصغيرة الناعمة تمنحني الدفء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها