الثلاثاء 2022/04/05

آخر تحديث: 12:15 (بيروت)

ابتسامات كييف.. لغة

الثلاثاء 2022/04/05
ابتسامات كييف.. لغة
متطوعات ينسجن شبكات تمويه للجيش الأوكراني في كييف (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا تبدأ الحرب بوصول الصحافيين إلى العواصم ومناطق التوتر، ولا تنتهي بمغادرتهم.
كانت الحرب قد بدأت بالفعل في أوكرانيا، بينما نحن الصحافيين منشغلون بالتقارير والتصريحات والتقييمات العسكرية. بدء القتال في دونيتسك ولوغانسك شرقاً، شغل الجميع، لكنه لم يكن داهماً في تلك الأيام الأولى، ولا كان يعني بالضرورة أن يضعنا في حال التساؤل عما إذا كان ما نشهده بالفعل الحرب العالمية الثالثة التي أُتخمنا تحذيرًا منها. لكنها أُعلنت، مستبقة الأوكرانيين والغرب والعالم، وأيضاً الصحافيين الذين وصلوا إليها مترقبين. هي الحرب إذاً، كما قررها بوتين، مع ساعات الصباح الأولى، في 24 شباط 2022.

كييف، التي وصلتُها قبل الحرب، أو تلك "العملية البوتينية الخاصة"، بدت محتارة في القطع مع نمط الحياة الطبيعية كما تَعرفُها.

هنا كان استمرارُ الناس في ارتياد المقاهي والمطاعم، وهناك كان التنقلُ السريع بين متاجر سطح الأرض وباطنها، مرة للتسوق، ومرة بحثًا عن دفء سريع قبل مواصلة أعمال النهار. لكن أيضاً، هناك التثاقلُ أفقياً وعمودياً. لم تكن المطاعم الجورجية أو التركية قد هُجِرت بعد، لكن مرتاديها غرباء أو وافدون جدد. طغت على وجوه أهل كييف، وهم كحال أهل العواصم وافدون إليها وأهلها الأصيلون في آن معاً، ملامح الغرابة والتيه، تساؤلات العيون التي لا تجيبها ابتسامة الصحافي الذي حط فيها كطير جارح.

الصورة الشاملة وتفاصيلها تقول ما لا يمكن تفاديه، الشرارة انطلقت بالفعل.

لم أسمع دويّ صافرة الإنذار الأولى، إذ طغى عليها رنين هاتف غرفتي المباغت. انقضّ على نومي وساقني إلى رفع السمّاعة في خضم حُلكة شديدة كنت قد تقصّدتها كي أتمكن من إغفاءة عميقة، ولو لساعات قليلة. خلال ثوان، وربما كسور من الثواني، وجدتني أسأل دفعة من الأسئلة من من دون أن تحضرني الإجابات. في طريقي إلى المكتب الصغير في الغرفة حيث الهاتف، كنت أُمسك بهاتفي الخاص الذي جعلته في وضعية النوم هو أيضًا كي أبعد عني ذبذبات الإشعارات المتلاحقة كالنَّفَس. رسائل لا تحصى واتصالات أيضاً. قبل أن أتفقد مضمون هذه الرسائل، رفعت السماعة وسلّمتُ نفسي لعاملة الاستقبال في الطرف الآخر تخبرني بإنكليزية متخفية بلكنة أوكرانية قوية. لم أفهم، صوت إنذار الحريق صمَّني، ورحت أقول في نفسي: هذا ما لا أحتاجه الآن. أريد قهوة كي أبدأ الاستيعاب. داهَم كلُّ شيء فنجان قهوتي. لو أن الحرب تنتظرني لأجمع شتات ذهني، لو تعيد عليّ السيدة الأوكرانية اللطيفة والهلعة، عبر الهاتف، كل إرشاداتها، بعد فنجان القهوة.

عندما فهمتُ أن عليّ أن أحزم أمتعتي وأغادر الفندق إلى أقرب نفق، جاءني طرق على باب الغرفة. فتحتُ الباب لأجد رجلًا لا يتحدث الإنكليزية، لكنه يجيد الإيماءات ساعياً إلى طمأنة نظراتي المستفسرة بابتسامة تقول إنه هنا لمساعدتي في نقل أغراضي. فلا مصعد يعمل في حالة كهذه. خرجتُ إلى شارع كنت أعرفه بالأمس، لكني وجدته مقفراً إلا من صحافيين تجمعوا في الخارج وتعددت غاياتهم، منهم من انشغل بالتواصل مع غرفة التحرير، فيما انهمك آخرون في البحث عن مكان إيواء آخر، لهم ولمعداتهم، ومنهم من أراد قهوة يلمُّ بها رأسه وربما تدفئ دمه. وأنا كنت كل هؤلاء.

بدت الأيام الأولى ولّادةً لكل أنواع القلق والمجهول والأسئلة التي لا إجابات لها. خلالها، استهلَّ معظم المحللين مداخلاتهم بعبارة "لا أحد يعرف ماذا في رأس بوتين". ليت هذه الإجابة قفزت إلى لساني، ردًا على سؤال: إلى متى ستطول الحرب؟ هذا ما فاجأتني به السيدة التي تهتم بشؤون إحدى الشقق التي أقمت فيها بعدما أصبح خيار الفندق لوجستياً غير مناسب.

تحدثني بالأوكرانية. أعرف عن ماذا تسألني، لكني أكذب. قلت إنني لا أعرف الأوكرانية، ولا أفهم ما تقوله. لا أكذب، أنا فعلًا لا أعرف اللغة، لكني فهمتُ ما تريد قوله، من نبرة صوتها وقلقها وإيماءة يدها المتحركة إلى الأمام. كذبت. أردت كسب وقت قبل أن أصوغ ردّي. أَمسكَت بهاتفها، لقنته سؤالها وقدمت لي الترجمة. لا مفرّ. حاصرتني عند الباب، ونظراتي فضحتني. حركت رأسي باتجاهات تقول إن الحرب ربما تطول، ألحقتها برفع للكتفين لأوحي لها بأنني لا أعرف، ثم أومأت مجدداً برأسي إلى الأمام لأقول لها إن ظنّي أنها ستطول، ثم أَكثرتُ من إشارات اليد في اتجاهات متعارضة. لكن الكلمات لم تخرج، بالكاد تسربَت أصوات من شفتيّ.

أقفلت الباب. عدت إلى بيروت، صيف 2006. أقل من ثلاثة أسابيع أمضيتها في أوكرانيا، أعادتني إلى 33 يوماً من حرب تموز.

مهمة أعادت الكثير من الذاكرة المحزنة من بيروت. حرب تموز وما قبلها وما بعدها. الجسد له ذاكرته أيضاً.

أفكر في ما فعلته بنا الحرب. حرب تموز، أو انفجار بيروت، غيَّرا في وعي وقلوب كثيرين منَّا في لبنان. وماذا ستفعل هذه الحرب في مَن وجدوا أنفسهم، في غفلة من شبابهم، مقاتلين أو متطوعين.

آدريان، شاب التقيته في مدينة لفيف، التي انتقلت إليها في الأيام الأخيرة قبل العودة إلى لندن من طريق بولندا. بريق في عينيه سبق يده الممدودة للسلام. تبادلنا الابتسامات قبل الحديث عما له علاقة بتسهيل التنقل والعمل. حديث امتزجت به كلمات إنكليزية بسيطة في البداية، قبل أن يعتمد الترجمة الفورية عبر الهاتف مع الكثير من الابتسامات. كيل من ابتسامات غلّفت الكثير من المعاني، وفتَحَت باب التعرف إلى الشاب الذي أخذته الحرب من شغفه بالغناء، مرة إلى التطوع في إطار المساعدات المدنية، ومرات للعمل مع الصحافيين. يفتح لي صفحته في "إنستغرام"، هنا يغني على مسرح، وهذا فيديو مصوّر لأغنيته. الإيقاع يستمر، لكنه ما عاد للفرح والحب أو التمرد. هذا إيقاع المنشورات السابقة. إيقاع اليوم تبدل. هنا أيضاً، يستعيدون بشكل أو بآخر شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وضع آدريان عمله في مجال توفير التجهيزات المسرحية والمعدات الصوتية جانباً، واقتنى سيارة مناسبة لمزاج الحرب وتحركاتها.

سيارة ترافقه فيها أولينا. شابة لم يكن يعرفها قبل الحرب، جمعتهما الظروف الطارئة نفسها التي أخذته من موسيقاه. داهمت الحرب أولينا أيضاً. تسألني عن كييف، فهي من لفيف وسياق دراستها جعلها متنقلة بين لفيف وبولندا أكثر من المدن الأوكرانية. بحكم دراستها، بدت أولينا أكثر ارتياحاً للتواصل بالإنكليزية، وهذا أمر لا تجده كثيراً بين الأوكرانيين. السلطة تتجه غرباً، وتراودها أفكار عن "الناتو"، لكن ذلك لا يعني أن الشعب يهيم عشقاً باللغة الإنكليزية.

أسأل أولينا، الصبية ناعمة الملامح، إن كان كان قد سبق لها العمل مع صحافيين، فتبتسم نافية. يتدخل آدريان ليخبرني أن أولينا "مؤثرة معروفة" في "تيك توك" و"إنستغرام". ذُهلت. هذه هي المرة الأولى التي أجدني فيها على مقربة من "إنفلونسر". تقول أولينا إنها حولت مضمون حسابها لمتابعة الحرب وأخبارها. لم تتخلَّ عن "السيلفي" تماماً، لكن الغايات تبدلت.

أسأل أولينا وآدريان: ماذا ستفعلان بعد انتهاء الحرب؟ فتأتيني ابتسامات وإيماءات. في حديث لاحق، أخبرني آدريان أن هذه هي المرة الأولى التي يتحد فيها الأوكرانيون على هذا النحو، وربما هي الفرصة الحقيقية الأولى لما سماه ولادة أوكرانيا. وهي، على ما يبدو أيضاً، ولادة لأولينا وآدريان جديدَين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها