الأربعاء 2022/03/16

آخر تحديث: 15:55 (بيروت)

عزيزي الفيروس الملِك...

الأربعاء 2022/03/16
عزيزي الفيروس الملِك...
"ديفيد" مايكل أنجلو (غيتي)
increase حجم الخط decrease
احترتُ أوّلاً ماذا أسمّيك أو كيف أناديك، فأسماؤك باتت كثيرةً ما شاء الله، وشجرةُ عائلتِك تنمو باستمرار، حتّى صارت أشبه بسَرْوةٍ تُناطح السماء، نكادُ نكسرُ أعناقَنا ونحن نجهَد لقياس طولِها الفارع.

أخيراً، قرّرتُ أن أستقرّ على اسمِك العلميّ الرسميّ الذي مَحَضَتْهُ إيّاك منظّمة الصحة العالميّة. تلك الهيئةُ الأمميّة المسكينة التي تَقْتفي آثارك الفتّاكة من بقعةٍ إلى أخرى، وتكادُ ترفعُ لك الرايةَ البيضاء.

هلّا عَذَرْتني إذاً، كوني اكتفيتُ بهذا الإسم وتجاهلتُ البقيّة، مع شديد احترامي لها جميعاً لأنّها من نَسْلِك خرجَتْ، ولن أتجاسرَ على التنكّر لانتمائها إليك، إلى الفيروس التاجيّ الأب، حتّى لو تجنّبتُ تَعْدادَها إكراماً للإيجاز.

مولايَ كوفيد

الحياةُ من دونِك لا طعمَ لها ولا لَون، فأرجو أن تُصغي إلى ندائي ولا تُغادرنا. حَطَطْتَ رِحالك في الصين قبلَ عامين ونيّف، ومذّاك، تحرّرنا من رتابتِنا القاتلة، وسَلَكَت يوميّاتنا مَنْحى مغايراً تماماً، فأرجوكَ لا ترحل عنّا. أعلمُ جيّداً أنّك تستعدّ لاستراحةٍ موقّتة لأنّ الصقيع شَرَعَ في وضع أوزارِه، ولن تتوافرَ لك حريّة التحكّم في إيقاع معيشتِنا كما تشاءُ وترغب. لكنّ ما يُثلِج قلبي أنّنا سنكونُ على موعدٍ متجدّد معَك في الشتاءِ المُقبل، وأنّك تُخبّىء لنا كما عوّدتنا،  مُتحوّراتٍ طازجة ليست في الحِسبان، تقذِفُ بالعُلماء والأطبّاء وصُنّاع اللَقاحات إلى متاهةٍ جديدة.

شكراً جَمّة أوجّهها إليك لكلّ ما فعلتَه بنا، ولكلّ المآثر المجّانيّة التي أغدَقْتها علينا. لقد أرغَمْتنا قبل كلّ شيء على وضع تلك الكمّامة الظريفة، حتّى صِرنا لا نعرفُ شرقَنا من غربِنا إلّا إذا تسلّحنا بها. لقد باتت بوصلتَنا في كلّ ما نصنَعُه، حتّى لو كلّفَتْنا عدم تنشّق ما يكفي من الأوكسيجين. ولماذا نتنشّقُ هواءً نخالُهُ نقيّاً ما دام التلوثُ قد فَتَك به؟ لم نكُن لِنُدْرك أنّنا نحيا على فوهةٍ من الجراثيم والملوِّثات، لَو لم تقتحِم حياتَنا، وتذكّرنا بذلك، وتأخُذ بِيَدنا لحمايتِنا ممّا نقترفُ بحقّ أنفسِنا. صِرنا نبدو أشباهَ لصوص، صحيح. بِتْنا غيرَ قادرين على تمييز أحبّاء نَتوقُ للقائِهم، من آخرينَ لا نهنأ بمُصادفتِهم، ونواظبُ على تجنّبِهم، صحيحٌ أيضاً. لكنّنا تدرّبنا على قراءة لغةِ العيون، وصِرنا خبراءَ بها. وتلكَ فضيلةٌ لم نكُن لنفوزَ بها لولاك.

ثُمّ، أليسَ القِناعُ صَنْواً لأبطال، نشأنا على أمجادِهم، وتربّينا على إنجازاتِهم درءاً للأشْرار وصوناً للأخْيار؟ هل نَجرؤ على تخيّل "زورو" من دون قِناعه الأسود؟ هل يرتضي "باتمان" (الرّجل الوَطواط) أن يزجّ بنفسه في المهالِك وقد تخلّى عن قِناعه؟ كيف يستطيعُ "غرندايزر" التصدّي لِوحوش "فيغا" إذا لم يأتمِر بتعليماتِ "دوق فليد" من خلف كمّامتِه… عفواً قِناعه!

من حَسَنات القِناع الذي حَكَمْتَ علينا بوضعِه، أنّه مرئيّ، مَحسوس، مَلموس، يَسْهُل علينا انتزاعُه في لحظاتِ التبرّم والشكوى. لكنّه يظلّ نقطةً في بحرِ أقنعةٍ لامرئيّة، تَعوّدنا أن نَلوذَ بها منذ ما قبلِ سطوع نجمِك علينا. أقنِعةٌ من وَهم، نُسيّجُ بها وجوهَنا ونفوسَنا وقلوبَنا، تُعينُنا على مصانعةٍ من هنا وتَملّقٍ من هناك وتَزلّفٍ من هنالِك، لنستحقّ أن نكونَ "حيواناتٍ اجتماعيّة"، ولئلّا يُرْمى بنا خارجَ الفِردوس. والطّامةُ الكبرى مع تلك الأقنِعة، أنّنا نَسْكرُ بها ونُدْمنُها، إلى درجةٍ نخسرُ حقيقتَنا ونفقدُ أصالتَنا.

هل قُلْتُ "حيواناتٍ اجتماعيّة"؟ وَحْدَك تجرّأتَ سيّدي على شَطب الكلمةِ الثّانية من قاموسِ البشر، فتحوّلوا بفضلِك أرانبَ تلازمُ جُحورَها، في انتظارِ أن تحجبَ "غضبَك السّاطعَ" عنهم وتأذَنَ لهم بالخروج. لكنّهم لم يَصْمدوا طويلاً في سجنِهم، وقرّروا أن يبارِزوك إلى ما لا نهاية، وخصوصاً حين علِموا أنّه يَعُزّ عليك أن تُفارقَ قريتَهم الكونيّة. وفي كلّ مرّةٍ كُنْتَ تُثبت لهم أنّك ما زلتَ تُمْسِك بخيوطِ اللّعبة، إجتَرحوا لأنفسِهم أملاً جديداً وهتفوا: "لقد خسِرنا معركةً، ولكنّنا لم نخسرِ الحرب".

سيّدي كوفيد

لا رَيْب أنّ الحربَ ستطول. لكنّ ثقتي بك راسِخة، لا يهزُّها لقاحٌ ولا تزَعْزِعُها حبّةُ دواء. ثابِرْ على ما أنت عازمٌ عليه، واحرِصْ على إتمام مهمّتِك ما دام فيكَ عِرْقٌ ينبِض. تَذَكّر أنّك من سُلالة الملوك، وممنوعٌ على تيجانِك الأبيّة أن تتدَحْرَجَ من عُلْيائِها.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها