الخميس 2022/06/02

آخر تحديث: 18:16 (بيروت)

شرائط أمي الزّرق

الخميس 2022/06/02
شرائط أمي الزّرق
increase حجم الخط decrease
كانت الحقائب والحاجات متناثرة في غرفتي في كل مكان. جواز السفر ذو الصفحات الخالية، يستقرّ إلى جانب سريري متأهبًّا لمغامرته الأولى. وكان القلق يأكلني، كما تأكل دابّة الأرض منسأة، ولأشعر حتى آخر ثانية أن شيئًا ما ينقصني ويجعل احتمال تخلفي عن رحلتي قائماً، من دون أن أملك وسيلة لتحاشي ذلك. أتفقّد نفسي وهاتفي وأوراقي وحقائبي ونظارتي الشمسية وصوتي، إلى أن أصل لجسدي وقلبي، أضع يدي على يسار صدري، "هل هو في مكانه؟"، حسنًا ها هو ينبض، إنه موجود وأنا حيّة وبوسعي أن أمضي في طريقي.

وفي بحر هذا القلق وضباب سمائه، وارتباك الخطوات البكر الداخلة فيه ورهبتها من المجهول الآتي، نفذت إليَّ، برقةٍ متناهية، إلى عمق قلبي، شرائطُ أمي الزرقاء. تلك الشرائط التي وضعتها على حقائب سفري كي يسهل عليَّ تمييزها عن غيرها في المطار، وهي في الأصل بقيّة من الإضافات التي تؤطر بها أغطية الوسائد التقليدية في بيتنا في غزّة، وقد فرَطتْها أمي وربطتْ على كل حقيبة علامة، كلمسة يد حانية. وفي الأيام القليلة السابقة لموعد سفري، وَجَدتْ تلك الشرائط الزرق طريقها لأحلامي، فصرت أحلم بظلام ممتدّ على دائرة بصري لا يتخلله سوى علامات حقائبي الزرقاء المشقوقة من أغطية الوسائد، وهي تضيء لي طريقي فأهتدي بها، كموسى وقد آنس ناراً.

ومضى عام، بخيره وشرّه، وظلت نيراني الزرقاء متوهجة كطير أزرق صغير يعدو من القلب ويحطّ على الشفتين. وعاودتني أحلامي مرة ثانية، وأنا على أعتاب إجازة الصيف، وخيارات البقاء أو الرحيل تطرق رأسي كنقرات طير مجنون. مجنون نعم. فلم يكن في ذهني دافع حقيقي ليجعلني أفكّر في أمر عودتي ثانية، لأبرد ضلوعي بالعناق، عناق أفراد عائلتي، فمع إغراء هذا الإبراد وتَوْقِي إليه، فهو عودة إلى اللايقين واحتمال اللاعودة المرجّح. فغزّة، وكما يقال عندنا، سجن كبير محاصر من الجهات الأربع، ومن ذا الذي يبارح السجن ليعود إليه من جديد بكامل إرادته؟! أنا!

فما أذكره أن حلم الشرائط الزرق عاودني من جديد، وتركني في حيرة من أمري بين أن أجرّب قضاء ثلاثة شهور في غرفتي وحدي، في مقرّ إقامتي الجامعية، دونما تكاليف دراسية، وأفتح جناحيّ على ما يمكن أن يعطيني إياه الوقت المفتوح في سخاء، والذي افتقرت إليه في الغربة وسط مشاغل دراستي المعتادة... وبين أن أسيح في الأرض وأسافر إلى مكان آخر قريب، تركيا مثلاً، الوجهة الأقرب والأسهل لي، جنّة الله على الأرض، مثلما كان يلهج بذلك أصدقائي العائدون منها... وبين أعود إلى مدينتي المحاصرة ربيبة البحر. وكان أن شاركت هذه الحيرة بصوتٍ عالٍ مع كل مَن هبَّ ودبَّ، وأعرف الآن أنني إنما كنت أبحث عن الجواب في داخلي، كسقراط العظيم، وأستمع إلى الأصوات لأعرف في أيّ صوتٍ منها سأجد نفسي.

أخبرني صديقٌ يحبّ الشِّعر ويتحدّث بالقصص من وراء لسانه، بقصّة أحمد شوقي الذي وقف بعدما أتمّ عامه الدراسيّ الأول في فرنسا، أمام مثل هذا المنشعب، ليستأذن من الخديوي صاحب منحة سفره، بالعودة لقضاء العطلة بين أهله في مصر، وليسرع الخديوي بالكتابة إليه بأن ذلك من نزق الشباب، وأنه يريد منه ألا يضيّع دقيقة واحدة من سنوات الدراسة في بلاد الغربة، ويبقى ليعيش التجربة كاملة، وأرسل له مالاً يعينه في السفر لأي مكان شاء سوى مصر، ففعل شوقي ذلك وحمَد للخديوي هذه الشورى طوال العمر. وحذّرني أصدقاءٌ آخرون من عواقب قرار العودة التي قد تنتهي بي عالقة في مدينة الحصار، وتمنعني من إكمال دراستي التي بدأتها بينهم، ففي بلدي، وكما يقال، تطلّ الحروب على كفّ عفريت.

وغنّت لي فيروز..
"مرق السفر أخد الناس أخد المطارح والحراس
واللي كتب السفر بقي بلا سفر"

وأما أنا فقد كنت أحلّق فوق منطقة نائية لا يدري بها أحد غيري، كنت فيها أريد السفر إلى جنة الدنيا، وكنت فيها أريد أن أبقى في غربتي وأتشبّع من تجربة حرّيتي الجديدة. وكنت فيها، كذلك، أعرف أنني أخشى العودة لمدينتي المحاصرة، لا لشيء سوى لأنني أعرف في نفسي خوفي الأصيل من لقاء الماضي، لقاء الرفاق القدامى الذين تركتهم خلفي، مستعيدة التوتر والخوف الذي كان يجعلني أتوجس من لقاء أي من زملاء مدرستي في الشارع. فهم ليسوا سوى ماضٍ، وأنا ليس من عادتي أن أرغب في مواجهة ماضيَّ، أنا التي أعيش حاضري بحذر الأبواب التي أخشى انفتاحها، فعالمي الآن هو حاضري، وأما ماضيَّ فأنا وحدي الذي أمتلكه دون الآخرين، وأعرف أنني أخاف من كلمة: "لقد تغيرتِ!" إذا ما انطلقت من أفواه رفاقي القدامى، ولا أقوى على تحمّلها، لأنني أنا وحدي التي لها حق النظر إلى صورتي القديمة.

غير أن هذه المواجهة الصادقة في داخلي، وضعتني من دون أن أحتسب أمام خوفي الحقيقي من مرور الوقت، ومن ألفة البعد، ومن أن تتحوّل عائلتي إلى ماضٍ أخاف من مواجهته هو الآخر. إن صيرورة الماضي عندي لا تُقاس بالزمن، فكل لحظة فائتة بحساب الزمن هي ماضٍ، غير أن الماضي في واقع الأمر هو إحساس، إحساسي تجاه كل لحظة ومحاولتي لتصنيفها، هل تنتمي إلى ماضيَّ أم إلى حاضري؟ وكانت نفسي في هذه اللحظة الفارقة من حياتي والحافلة بالأحداث، ذات وتيرة سريعة في تحويل حاضرها إلى ماضٍ مفقود الصِّلة بما قبله. وعندها تملّكني الخوف من أن تتحول عائلتي صورةً قديمة عن ذاتي تثير الرعب. كنت أخشى تحول المنفى إلى إكراه ذاتي نفسي في أعماقي بلا مبرر منطقي.

بسطتُ هذه الحيرة مرات ومرات متكلمة بصوت عالٍ، إلى أن شعرت وأنا أتكلّم أن عودتي إلى بيتي وعائلتي، حتى ولو لوقت قصير، هي القرار الصحيح الذي أحتاج إلى اتخاذه، وقد فعلت. غير أنه يتبقّى شيء آخر، وهو سرّ صغير احتفظت به لنفسي من بين أصدقائي، ولم يكن بفكرة يمكنني البوح بها، لأنه، أتدرون، تحويل أسرارنا الصغيرة إلى أفكار هو ما يجعلنا قادرين على مشاركتها، وإنها من دون ذلك ستظلّ منحازة إلى عالمنا الشخصي الذي سنخشى من مشاركته والانكشاف به عاريًا أمام عيون الآخرين. وأما سرّي الصغير فهو أنني لم أعد أعرفني، فمنذ خرجت وأنا أخاف المرايا، ولا أرى وجهي إلا في الظلال، وهو خوفٌ لطالما لازمني وكان لا بأس به ما دمت وسط أهلي ودمي ولحمي، فقد كنت أعرف نفسي من خلالهم. لكن غيابي الأخير عن أنظارهم أشعرني بفداحة الاغتراب عن صورتي، وجعلني أنحّي وجهي عن كل مرآة وكاميرا. لقد كنت بحاجة لمصالحة وجهي من جديد، في المرآة نفسها التي غادرته عليها ومضيت. سرّي أنني عدت كي أنظر إلى نفسي في مرآة غرفتي، التي لم تعوّضني مرآة أخرى عنها، على كثرة المرايا! كنت أخشى أن أستيقظ ذات صباح وأزيح الستائر في غرفتي وأسمح للشمس بالدخول وألقي تحية الصباح على وجهي في المرآة، فيثير ما أرى رعبي! كان مبلغ التوتر الذي شعرت به حين اقترب وقت لقائي مع عائلتي من جديد، لا يقاس إلى مبلغ توتري المضاعف من مواجهة مرآة غرفتي.

عليَّ أن أقول إنني ممتنّة للشرائط الزرق، ناري المقدسة التي أستهدي بها، التي أتمنى أن تظل تزورني دائمًا في أحلامي لأعرف عبرها الوقت الملائم للرحيل. إن مجرد فكرة العودة جعلتني أعيد تعريف ذاتي من دون أن أخطو خطوة واحدة خارج المكان، مجرد القرار وحده والاستعداد والحماس والتفكير في الأمر كان في منزلة تعريف جديد للذات من مكان آخر احتجت فيه أكثر لأعرف مَن أكون، وجعلني أحلّق للحظات بنشوة طفلة، غير مصدِّقة، أن هذه هي حياتي الحاضرة، وأنني صرت هذه الطالبة، التي كنت أراها في الأفلام، تسافر للخارج وتعود في الإجازة لبلدها ثم تمضي من جديد.

أكتب هذه الكلمات الآن تحت سقف بيت العائلة من جديد، في نهارات الإجازات الصيفية الطويلة الباعثة على الملل، وأتذمّر، كعادتي، من شغل البيت وخيط الضيوف الذي لا ينقطع، وأزور البحر كل جمعة، وتدهشني أمامه فكرة أن الإنسان حين يمتلك قدرة تحويل أفكاره وخواطره إلى شرائط زُرق مسافرة يغدو كائنًا لا يتوقف عن إثارة الدهشة!

وتغنّي لي فيروز...
"زارع الزرع راسم الطريق
مش إلو الموسم ولا إلو الطريق
ولو حدا ياخدني معو تذكروني
إنتو يلّي تركتوني
تذكروني تذكروني
تذكروني"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها