الإثنين 2018/11/26

آخر تحديث: 19:57 (بيروت)

عن مريم التي تستوطن الشرفة

الإثنين 2018/11/26
عن مريم التي تستوطن الشرفة
اللوحة: فرديريك آرثر بريدجمان
increase حجم الخط decrease
"تُحبُّ الربَّ إلهكَ من كلِّ قلبكَ ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك. هذه هي الوصيَّة الأولى والعظمى. والثانية مثلها. تحبُّ قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلَّق الناموس كلُّه والأنبياء". 
"انجيل متى إصحاح 22".

كتمثال حجري تقف، وقد التصقت أصابعها بالدرابزين الصدئ للشرفة التي يبدأ الشارع بالإرتفاع عند بدايتها ليبلغ ذروته عند رأسها.. رأس مريم وهي واقفة قلقة ومنتظرة حدوث شيء ما يقتل كآبة هذه الأيام ورتابتها.

منذ سنوات استوطنت مريم الشرفة، وكأن الشقة في الداخل مجرد مساحة زائدة، نادراً ما تحتاجها.

منذ سنوات لم تتغير ملامحها القاسية، بشرتها السمراء الجافة الخالية من مستحضرات التجميل، تنورتها الشانيل السوداء التي تكشف عن ساقين ضامرتين لجسد ضخم غير متناسق، حذاء الجلد الأسود الذي يرفعها عن الأرض بضعة سنتيمترات فقط. وحده شعرها القصير المجعد الذي صار أبيض تماماً، يشي بمرور الزمن على هذا الجسد الثقيل.

جاءت مريم زوجة ثانية، بعدما قضت الأولى في حادث غريب. جاءت ومعها بضعة ألوان شاحبة محايدة، لونت بها المكان حولها. الشرفة الممتدة على مساحة كبيرة من الأرض، كانت مليئة بالألوان الحارة، صارت جرداء قاحلة. تراب مُصفر، وبضعة سيقان خضراء نبتت وحدها هنا وهناك. لم تكن الظهيرة أو الشتاء أوقاتها المفضلة، إنها مجرد أوقات للإنتظار وراء نافذة بالكاد تساعدها في تكوين رؤية واضحة لأبنية مليئة بالسكان والقصص والحكايا.

شعبيتها الكبيرة التي بدأت بها حياتها هنا، أخذت بالتناقص مع مرور الوقت. هذه الأيام، لا تزورها سوى اثنتين أو ثلاث من النساء، بشكل منتظم. لم أزرها يوماً، لكني أحسّ ببرودة شقتها، أرى مدخلها المعتم، حيطانها المتقشرة الكئيبة الباهتة، أثاثها الخشبي القديم المتآكل ورائحتها الغريبة...

مريم تراقب الناس من الأسفل. تتبعهم بنظراتها، بفضولها، بحواسها كاملة، تدقق في ثيابهم، في حركاتهم، في نظراتهم، في دخولهم وخروجهم، تلاحظ الغرباء وتسأل الأطفال إذا عجزت عن إيجاد إجابة لأسئلتها.

مئات الصور لهذا المكان لا تغادر ذاكرتها أبداً... "العجوز قليل الحياء" الذي يخرج بثيابه الداخلية إلى الشرفة في البناء المقابل، "الساقطة الصغيرة" التي تختفي وراء كراكيب شرفتها لتدخن. "الكلبة" التي تستقبل شاباً، ليلاً، في غياب زوجها الطويل، "الشاذ" الذي ملأ جسده بالوشوم ووضع حلقاً في أذنه اليسرى أو اليمنى، وتخطئ أحياناً في تحديدها. 

العازب الذي لم يتزوج بعد ويسكن وحيداً، مثيراً قلقها على الصبيان الصغار، الشيوعي القديم الذي تحول رجل دين مؤخراً، ذلك "الوقح" الذي يربط شعره ويحضن صديقته أمامها وكأنها ليست سوى خلفية لصورتهما الحميمة... والكثيرون الكثيرون غيرهم. حتى زوجها الذي يقضي يومه في الدكان الصغير المجاور، يثير غضبها بعدم مبالاته بمشاهداتها اليومية وانفعالاتها، بغضبها الدائم من سكان هذه الصناديق المغلقة والمليئة بأسرار لا تعرفها.

المراهق الذي يتشاجر دائماً مع والديه وإخوته، الشاب الذي يرفع صوت الأغاني عند الظهيرة غير مبال براحة البشر، المرأة الغاضبة التي لا تعيرها أدنى اهتمام بينما يملأ صوتها المكان وهي تصرخْ طوال الوقت... كثيرون الذين يغضبونها وهي تراقبهم من الأسفل، تسمع أخبارهم من هنا وهناك، تسأل عنهم، تحفظ قصصهم وتعيدها على مسامع زوجها قبل النوم وعند الإستيقاظ. وكأن تلك القصص هي المبرر الوحيد لإستمرار وجودها على هذه الأرض.

لو أن مريم يوماً تصعد بضع درجات، بضع درجات فقط، لأدركت أن تلك المرأة الغاضبة التي لا تعيرها اهتماماً، لديها ما يكفي من المشاكل لتبقى منشغلة طوال الوقت. الإيجار، مصاريف المنزل، الفواتير المتراكمة، عملها اليومي المرهق، أطفالها، حاجتها الماسة لقليل من الراحة ولأشياء كثيرة لا تخطر في بال مريم أبداً.

لو أن مريم تعي.. فالمراهق الذي يصرخ طوال الوقت بحاجة إلى قليل من الحرية، القليل فقط في تلك الشقة المزدحمة بالبشر. وذلك الشاب الذي يرفع صوت الموسيقى الصاخبة لا يريد إلا أن يعبّر عن وجوده، عن كينونته، وعن اعتراضه على قوانين هذا المكان الممل المتكرر بالألوان نفسها والقوانين نفسها.

لو أن مريم تملك قليلاً من الشغف، لفهمت أن الصداقة لا تميز بين رجل وامرأة، لفهمت معنى أن تشعر بالوحدة رغم كل تلك الفوضى المحيطة، أن تكون بحاجة للحظات خاصة تخصك وحدك، أن تبحث طوال الوقت عن شيء لا تجده أبداً.

لو أن مريم تتوقف عن رؤية هذا العالم بالأبيض والأسود، لرأت الخوف في قلب تلك الصغيرة المختبئة، في عيني تلك المرأة "الخائنة"، خوف لن تشعر به مريم يوماً...

لو أنها تنظر من الأعلى لهؤلاء البشر، لشعرت بأشياء لا يمكن رؤيتها، لأدركت أننا جميعاً بشر، نحب ونكره، نصمت ونصرخ، نصيب ونخطئ، نفرح ونحزن، نعلو وننخفض.

لم تشاهد مريم يوماً فيلماً ذا قيمة إنسانية، ولن تدرك ما يقوله جونز "متلقي الذاكرة" في فيلم"the giver": "إذا لم نشعر.. فما الجدوى؟".
قليل من الحب كافٍ لتدرك مريم أننا نعيش ولا بد أن نجرب، وأن تلك تقاليد بالية التي تجعلها ترى في زوجين متناغمين أمامها مثالاً للكمال، بينما هما ينامان منفصلين منذ سنوات ولا يتحدثان مطلقاً. تلك التقاليد هي التي تُريها جارها في الشقة المقابلة، والذي يلتزم بالتقاليد حرفياً، مثالاً للفضيلة، وتقضي وقتاً طويلاً معه في تصنيف هؤلاء البشر بين صالح وسيء، ملائكة وشياطين، رغم أنه ما زال حتى الآن يتحرش بالصبيان الصغار كلما سنحت له الفرصة.

لو أن مريم تصعد بضعة أدراج، لرأت أننا مجرد ذرات غبار في هذا الفضاء الكبير اللامنتهي، وفي لحظة ما سنصبح غير مرئيين تماماً، وتلك اللحظات لحظاتنا نحن، نحن فقط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها