الخميس 2022/11/03

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

غزاويّة وهذا سَفَري الأول...لقد كبرت!

الخميس 2022/11/03
غزاويّة وهذا سَفَري الأول...لقد كبرت!
تجهيز فني، للكاميرونية باسكال تايو، قبالة أهرامات الجيزة ضمن معرض "الأبد هو الآن" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كموجةٍ خاطفة تأخذك من الشاطئ سريعًا وتمضي بك إلى عمق البحر.
بعد 26 عامًا، غادرتُ بيت العائلة في غزة، وحدي، للمرة الأولى، في رحلةٍ طويلة، ودعوات أمي وأخوتي وزوجاتهم وخالاتي وأخوالي، ترفرف في سمائي كحمائمٍ بيضاء وتُشيَّع خطواتي بالأمل.

زجاجة الماء المثلج في كيسها الأبيض الشفاف، وضعتها أمي في جيب حقيبة ظهري، كما في أيام المدرسة، وطوال طريق السفر كانت نظرة إليها تغمرني بالدفء المُمتنّ. التفاحات الخمس الصغيرة التي عادت السيارة أدراجها لإحضارها من البيت بعدما نسيناها، اتصالات أخي طوال الطريق، خالتي وصوتها الباكي وهي تكلمني وتقول "يجعلّك في كل طريق رفيق"، القبلات الصغيرة الطائرة في الهواء، والأيادي المُلوّحة، الابتسامات المُودِّعة تشفّ عن دموع خلف الستار، وضربات أطفال أخوتي بأيديهم الصغيرة على باب غرفتي في السَّحَر ليسلّموا على عمتهم قبل الرحيل، وصوت زوجة أخي في شرفة الدار كصوتٍ أخير من جدران غالية وهي تقول "تنسيناش".

مثل سحابة تُمطرُ، ابتسامات غمرت قلبي وعلَّت أُفقي الممتدُ في الضباب.
وعلى غير المتوقع.. كنت سعيدة!
كانت تلك السعادة الغريبة التي تُفاجئُ حبيباً يرحل عن حبيبه، حين يدركُ أن هذا الحُب قد أخذ كفايته.. وأنه الآن يفعلُ ما ينبغي عليه فعله، وأن هذا الرحيل هو ذروةُ الحُب.
مثل محبٍ يغادر حبيبه، إذا ما توجب عليه ذلك كداعٍ من دواعي اللباقة.. لأنه حان الوقت لذلك، ولأن هذا الحُب قد أخذ كفايته للخلود.

بلا دراما وداع بين الدموع والزفرات، انعقدت عِناقات مُحبَّة بسلام، وسرَت خطوات بخفة فرح طفولي. في لحظة، تساءلت عن شعوري، وعن ذاك الإحساس الذي تصورته طويلًا عن الألم جراء اضطرارنا لفراق الأشياء التي نحب. فأين تلك الأشياء؟ لربما استنفدتها تصورًا وخيالًا. وشعرت في تلك الليلة بأني تشربت هذه البلاد بما يكفي. وأن شجرة روحي تعمقت جذورها. أما البذرة، فتتوق للذهاب مع الريح.

كانت عيناي في الطريق تودّ أن تعانق هذا الأفق الممتد الشاسع. أجتاز معبر رفح، باتجاه القاهرة، محطتي الأولى. أنا ابنة غزة التي فازت بمنحة دراسية في مدينة الدوحة. أنا الفتاة الفلسطينية. أسافر. وحدي. للمرة الأولى... أكرر الكلمات في سرّي فرحاً. سأدرس وسأرى طموحي أمامي يتبلور. سياسياً واجتماعياً، اقتصادياً وجندرياً،... هذه الرحلة ليست تفصيلاً. فرصتي المميزة التي ربما لا تسنح لكثيرات مثلي. ممتنّة. يداي مفتوحتان تُعانقان الحياة والموسيقى (لو كان بكيفي أنا؛ وأول مرة تحب يا قلبي). قلبي سُلّم موسيقي أراه بعينيّ، والأنغام تعبث به فأحس بها، وملامحي تتشكل مع كل خطوةٍ على السُلَّم.

كأني رحتُ أستيقظ في الإدراك فجأة، طوال الطريق الممتدة، ومع كل يافطة في الطريق: سيناء ترحب بكم، الشيخ زويد، القنطرة،.. فأقول في سري: "مش مصدقة!". يا إلهي، لقد كبِرت! والآن أقطع الطرق وحدي. كانت الطفلة في داخلي تنظر مفتونة، ولم يكن في ذاك الإحساس بالكِبَر، غُبن. بل كان دهشةً جَذلة، كفرحة سرية لمراهق يلاحظ شاربه يختطّ في وجهه.

كأني في حُلم، من تلك الأحلام التي نراها في المنام ونستيقظ منها. ولم يكن حلمًا حقيقيًا من تلك التي نتوق إليها. فأنا لا أحلم، أسيرُ مع الحياة فحسب. وفي مساحتي حيث أسير، لا أنسى كيف أعيش كما أريد.

كانت لحظة، لحظات.. وكنت أُدرك أنها لحظة، وأنها عابرة.. وأن كثيرًا من الأشياء الآتية لربما تكونُ أكبر مني، لكني آمنت بحق اللحظة الجميلة الشرعي في أن تكون كغيرها، فعشتها كما هي، وحررتُ نفسي من التوقعات. قلت: أعيش فحسب.

ووجدتني ابنة اللحظة على أعتاب القاهرة في عتمة الليل، مع حقائب سفري وهاتفي خارج الاتصال. هذه الكلمة أعرفُ أنه لا داعي لها، فقد كتبت تلك اللحظة التي نشدتها منذ أن بدأت. لكن يفتنني إذ أقول "القاهرة"، وإذ أكتبها "القاهرة"، وإذ أكررها في نفسي "القاهرة"… وسط البلد!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها