الإثنين 2022/10/10

آخر تحديث: 11:28 (بيروت)

لا تصدقوا بلال خبيز

الإثنين 2022/10/10
لا تصدقوا بلال خبيز
increase حجم الخط decrease
لا تصدقوا بلال خبيز وهو يقول: إن العالم يهجرنا. بلال لا يريد أن يشاركنا في ما آل إليه واقع هذا العالم دفعة واحدة. بلال أحنّ علينا من العالم، فيخبرنا عنه على جرعات صغيرة مخففًا من وطأة هجرته لنا.

لا تصدقوا عنوان كتاب بلال، لأن ما يقوله لنا بين سطور الكتاب هو أن العالم هجرنا فعلًا. تم الأمر. لم ننتبه، لأننا كنا، ولا نزال، "نلهث لالتقاط متغيراته"، ولم ولن نتمكن من القبض عليه، لأننا لسنا من النخبة التي أصبح هذا العالم مصمّماً على مقاسها. وفي سبيل تحقق الوفرة المطلوبة، بالسرعة المطلوبة لضمان استمراريتها، استغنى العالم عنّا بكل ترحيب.

لا تنخدعوا بالمقاطع القصيرة وعناوينها الجذابة التي اختارها بلال ليبلغنا بهجران العالم لنا، فتقطيع الخدعة لن يلغي الاختناق. لأنه، بالرغم من مداراة الكاتب لما تبقى من تماسكنا وآمالنا، سنختنق مع كل مقطع صغير، اختناقة صغيرة. فالعالم قبل أن يهجرنا، خنقنا، أو خنقنا بهجرانه لنا.

"لا مكان للفقير في هذا العالم"، يعلنها لنا. ولو كان العالم لم يهجرنا بعد، لكان واقع الحال أن لا مكان للفقر في العالم، وليس للفقير. هذا العالم أوجد الفقير والمتشرد، ثم سحقهما وأبعدهما عن عالم الوجوه الأليفة، والأزياء المتشابهة، والعطور التي تغطي روائح الأجسام وأحشاءها. هذا العالم تتحكم فيه حفنة من النخبة. معسكر أصحاء مقابل معسكر الناس الذين لا يملكون وقتاً ليتبعوا نظاماً يبقيهم أصحاء. معسكر مُقتني "نايكي" و"ليفايز"، مقابل معسكر "غوتشي" و"تيفاني". معسكر "فيراري" مقابل معسكر "تيدا" و"نيسان". معسكر "آيفون" الأحدث، مقابل معسكر نفايات الموبايلات. معسكر المستهلكين مقابل المعدومين الذين فقدوا مكانتهم كمواطنين من دون أن يكسبوا حقهم بأن يكونوا مستهلكين... لقد أصبحوا لاهثين فقط.

باختصار، هو عالم اللاهثين ليبقوا جزءاً منه، في مقابل المتربعين على عرش دورانه.

يذكّرنا الكاتب بأننا لا نملك الوقت، إلا لنعمل كآلات، ثم نتعب وننام. ننظر ولا نرى، نخرج ولا نتواصل، نهرول باستمرار، في محاولة لمجاراة العالم الذي لا يأبه لنا، ويسعى جاهدًا للاستغناء عنا، والإبقاء على المُصطَفين الذين يملكون الأحياز العامة ويضعون القوانين. العالم يريد تطهير نفسه منا، بالابتعاد عنا وهجره لنا، كبقعة ضوء تنحسر لتغطي جزءاً أصغر من المساحة التي كانت تغطيها، ونحن نصبح خارجها، أصبحنا خارجها، وعلى الأرجح لم نكن يوماً داخل بقعة الضوء تلك.

كنا نحتاج لكلمات سر، لنبقى ضمن المشهد الذي بتنا متأكدين أن هرولتنا الحثيثة لن تحقق لنا غاية البقاء في ضوئه أو العودة إليها.

كنا نحتاج كودات عبور، لنبقى بأجساد نقية خالية من العيوب وغير مستعملة، وكودات لنتمكن من استخدام الألفاظ والعبارات الصحيحة، وكودات لمجاراة تطورات التقنيات.

وكل هذه الكودات لن تنفعنا، لأننا أصلاً لسنا من النخب الذين ورثوا حقهم ومساحتهم وحصصهم من هذا العالم. ونجحوا في طردنا منه لأننا مجرد عبء فائض.

فهذا العالم أصبح نادياً، وعضوياته محدودة ومحصورة في الحيتان. عضوية يحصلون عليها عند الولادة، كحقٍّ مكتسب. ولا يمكن لأعضاء جدد الدخول إليه، إلا من طريق صلات طارئة تجمعهم بالأعضاء القدامى. والأعضاء الذين يريدون إنقاذ الكوكب وحيواناته وأشجاره، الذين يمتلكون الوقت، هم جزء من مهمِّشي مساحة مَن لا يملكون الوقت ولا يملكون فرصة إنقاذ أنفسهم.

ولأن الكاتب قرر أن يكون رؤوفاً بنا، منذ لحظة اختياره عنوان كتابه، فقد ترك لنا في نهاية الكتاب بصيص أمل كان قد مهّد له في كل مقاطع الكتاب وأقسامه، وهو المشاعر والأحاسيس، مقترحًا اقتراض وسائل النجاة في هذا العالم من المرأة التي تمكنت في ظل السلطة الذكورية المسيطرة لقرون من تطوير وسائل إغواء، وسحب الرجل من ساحة الحرب إلى البيت الذي جعلته مركز الحياة البشرية. نجت المرأة التي كان يفترض أنها خارج الضوء، وطوّعت الرجل وعالمه النخبوي. نجت المرأة، في حين كان العالم يظن أنه يهجرها. وربما إذا سلّمنا -بحسب الكاتب- دفة مركبنا لعقول النساء، أو لعقول تشبه عقول النساء، نجَونا بالبهجة والمتعة المتحققة رغم أنف التقنيات وما خسرناه بسببها.

وقد يسعف الفَلَك أمنية الكاتب ورأفته. فوفق الحسابات والنظريات الفلكية، لقد دخل العالم "عصر الدلو" ليبقى في 2160 سنة، بعدما بقي في "عصر الحوت" المدة نفسها، وهي مدة كل عصر فلكي. وفي كل دورة فلكية تحصل تغيرات أساسية في كوكبنا، ومن التغييرات التي ستظهر في عصر الدلو الذي دخلناه العام 2020، بحسب علم الفلك: مساحة أكبر للفردية والحريات، التفوق التقني والاكتشافات العلمية الرائدة، استلام المرأة لزمام السلطة في مختلف الميادين! إذن، ربما اجتماع امرأة مع تقنيات عصر الدلو، يشكل نقطة تحوّل هذا العالم.

كان يمكن أن نلهث أيضًا وراء هذا الأمل (أمل الكاتب وأمل عصر الدلو)، لو أننا نؤمن بهذه النظرية الفلكية، ولو أننا نعتقد فعلًا أن العالم لم يُتِمّ هجرانه لنا بعد.

ثم هل يستحق هذا العالم أن ننقذه؟ هل يستحق أن نعطيه فرصة لتكرار دوراته غير مضمونة النتائج؟ وماذا يعني أن يعود العالم أو بعضه، بعد أن نكون قد غادرناه نحن؟ لماذا نشغل بالنا ونتمنى لهذا العالم أن يستعيد بعضاً من صوابه لمن سيرثه عنّا؟ لماذا لا نتبنى قسوته علينا وننسى التفكير في أمر تحسينه لمَن بعدنا؟ ربما بهذا نكون رؤوفين بهم أيضاً، بتجنيبهم خيبات أمل كخيباتنا.

قراءتي لكتاب "العالم وهو يهجرنا"، ذكّرتني بقراءاتي المتكررة لمدونات روبير بريسون حول السينماتوغراف. كل مدونة هي جرعة تأخذني كل مرة وترميني حيث أغرق في عذوبة فكرة. ويمكنني الاكتفاء بمدونة واحدة في اليوم، والبقاء فيها. هذا حال مقاطع وأفكار بلال عن العالم وهو يهجرنا. كل مقطع يُظهر المشهد من زاوية، يمكن الاكتفاء بالنظر إليها، وإهمال بقية المَشاهد، والغرق فيها لبعض الوقت. كل فكرة جُرعة، كل جُرعة مكتملة في حد ذاتها، في قدرتها على أن تؤلمك وتفزعك وهي تنبّهك، وتلقيك على كنبة مذكورة، في إحدى أو بعض المدونات. فتتأكد على الأقل من أن العالم، وهو يهجرك، سيهجرك مع كنبتك. وبالنتيجة، تحصل على مشهد بانورامي متكامل من الداخل والخارج، مشهد جوّي أيضًا كأنه التُقط من فوق. ولعل الأمر ينطبق أيضاً على كل كتاب مِن كُتُبه، حين نقرأ أياً منها بشكل منفصل عن الآخر، أو اعتباره جزءاً مما سبقه وما سيليه.

ربما لا بد من تقبّل أمر هجر العالم لنا. لم نكن من المحظوظين، وليس لدينا متسع من الوقت، ولا الأوهام والسذاجة، لنتوقع أن نصبح منهم، أو يصبح الجميع محظوظاً بالتساوي يوماً ما. لكننا، لو استطعنا أن ننتهج السخرية والازدراء والاستخفاف بكل شيء، وأمِلنا في أن تكون نسخنا التي تعيش في أحد الكواكب الموازية، أكثر حظاً من أنفسنا، ربما يكون هذا الأمل أكثر واقعية من المراهنة على التغيير. على الأقل لن نشعر بأننا هُجرنا من دون علمٍ منّا.

هذا العالم هجَرنا، لكنه قبل ذلك، كان قد سجنَنا في خياراته التي حددها لنا، موهمًا إيّانا أنها خياراتنا. هجَرنا هذا العالم، وربما بهذه الهجرة نتمكن من الإدعاء بأننا نملك حريتنا بعيداً من ضوئه وخارج السيستم. يغادرنا، فنُوهم أنفسنا بأن مغادرته لنا كانت خيارنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها