الخميس 2020/04/30

آخر تحديث: 18:40 (بيروت)

أي مضيعة للحياة

الخميس 2020/04/30
أي مضيعة للحياة
الاحتجاجات في جسر الرينغ، مجدداً، ضد الغلاء وانهيار سعر الليرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كل شيء لديه مُعدّ من أجل الغد، كأنه مصاب باكتناز قهري للإحتفاظ بكل شيء، حتى الأغراض المعطلة والمعلبات منتهية الصلاحية والأوراق القديمة، علّه يحتاجها يوماً.

هو الآن على أعتاب السبعين من العمر، وما زال عبارة عن روح قلقة، يقف على الجسر الواصل بين الحاضر والمستقبل. يعود خوفه، ربما، إلى صورة والده المطبوعة في رأسه. العجوز مات مهملاً بعدما ناهز المئة عام، عاش مشرداً خلال حربين عالميتين، عمل بجدّ، ممتثلاً لكل ما أملاه عليه الوطن والواجب قبل أن يرميه الوطن، كصندوق حذاء عتيق، منهكاً بالمرض.

أو ربما يعود خوفه لما شهده سابقاً من حروب وانهيارات. كان قبل الحرب الأهلية العام 1975، يعمل في بيروت حلونجياً. كلما قدّمته إلى أحد أصدقائي، راح يسرد تفاصيل تلك المرحلة من حياته، يخبره بحماس عن بيروت وشارع الحمرا وساحة البرج، سينما شهرزاد وسينما الأمير والتياترو الكبير والنساء طبعاً. أفهم الآن سبب حنينه لتلك الأيام. الحرب الأهلية سلبته نمط حياته، ونحن اليوم نعيش الخوف نفسه، الخوف من خسارة أسلوب حياتنا، أن يتحول في ما بعد إلى مجرد نوستالجيا.

لديه دائماً حذر شديد من كل ما يجري حوله. أن ينهار فجأة كل ما بناه. يحدثني أحياناً عن محل الحلويات حيث كان يعمل، في منطقة فردان. يتحدث عنه بفخر وشغف، كأهم إنجازاته في الحياة قبل أن تجبره الحرب على ترك كل شيء والعودة إلى قريته ليستقر فيها. بعد نهاية الحرب العام 1992، عاد إلى بيروت علّه يحصّل بعضاً من تعويضه من الضمان الاجتماعي. ترك له انهيار العملة بضع مئات من الليرات لا تكاد تكفيه لشراء وجبة طعام.

مع بدايات ثورة 17 تشرين، كنت أراه متسمّراً طوال الوقت أمام شاشة التلفزيون، تعلو وجهه ابتسامة غامضة وتغمره سعادة صعُب علينا فهمها، كأنه لا ينتمي إلى عالمنا، كأن ما يحدث في شوارع بيروت إنما يحدث لأجله، انتقاماً له، من كل ما فعله به أمراء الحرب.

على مدى سنوات، كان قد جمع مبلغاً متواضعاً من المال، مدخراً كل ما استطاع تحصيله، مستخدماً أساليب تصل في بعض الأحيان إلى حد النذالة المحببة لكي يقتنص المال من أولاده، "من أجل الآخرة" كما يقول ضاحكاً. مع بداية الانهيار المالي، بدا مطمئناً إلى ما جمعه من المال. مرتاحاً إلى آخرته. أقنعته منذ أيام أن عليه تحويل ما يملكه إلى الدولار الأميركي، كي يحمي مدخراته، كي لا يتكرر ما أصابه العام 1992.

كان يجلس أمام طاولته، يمضغ طعامه بالسن الوحيدة المتبقية في فمه، غير مبال بكل ما يحدث حوله، كأنه اعتاد الانهيارات وخيبات الأمل، غير آبه بشيء بتاتاً، وبين الحين والآخر ينظر بحسرة إلى حفنة صغيرة من الدولارات، حفنة صغيرة هي ثمرة سنوات من الجهد قضى عليها سعر الصرف اليوم، مجرد حفنة صغيرة.

أرى ماضيه كما أرى مستقبلنا، أفكر أن كل تعويضات السنوات التي قضيناها في العمل ستكون عبارة عن وجبة طعام، مكافأة لنا على إفناء أعمارنا في العمل. ذهبت مع صديقتي نتنزه في شوارع بدارو والحمرا والجميزة، نتفرج بصمت على الحانات والمحال التجارية المغلقة، وعاد بي الحنين إلى سهرات قديمة قد لا تعود. ما سيبنيه الجيل المقبل، قد لا يمتّ إلينا بصلة. قطعت صديقتي صمتها الطويل: أي مضيعة للحياة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها