الجمعة 2021/12/17

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

"ديل" أو لا "ديل".. أو فاشية الاختيار الحرّ

الجمعة 2021/12/17
"ديل" أو لا "ديل".. أو فاشية الاختيار الحرّ
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
ها قد امتلأت كل المقاعد بالجمهور، أطفئت أنوار الاستديو وحلّت مكانها بروجيكتورات وجهت كلها عليك. جلس مقدّم البرنامج بعدما أنهت مساعدة المخرج لمساتها التجميلية الأخيرة. داعب ساعته البراقة مبتسماً، صرخ مدير المسرح آمراً بالسكوت. أُشعلت أضواءٌ حمراء على رؤوس الكاميرات وأمر المخرج من عزلته ببدء التصوير.

اللعبة، "ديل أو لا ديل". عليك أن تختار بين علبتين يدفعهما المقدّم أمامك، مرفقتين بسماجته وحسه الفكاهي الرخيص وصيحات الجمهور الضاغطة المستشرسة. ديل أو لا ديل، يرددها المقدم مراراً وتكراراً والخيار بين يديك. فنحن في عصر الديموقراطية وحرية الاختيار، ولكل عصرٍ لعبته. واللعبة هنا هي الاختيار بين صندوقين لا ثالث لهما، وإذا عجزت عن ذلك، يأتيك صندوقان آخران، وهكذا... يأتيك تعليق مقدم البرنامج مع صياح الجمهور وحرارة الإضاءة. لن تترك الحلقة من دون أن تختار، من دون أن تمارس حقك الطبيعي. إختَر، إختَر الآن، إختَر الآن.. وإلّا!

في العلبة الأولى حرية تعبيرٍ ومواقع تواصلٍ اجتماعي، إنفلوينسرز وخبراء في أي شيء وكل شيء. في العلبة الثانية ديكتاتورٌ صغير مع جريدةٍ ناطقةٍ باسمه وتلفزيونٍ رسميٍ مترهلٍ.

في العلبة الأولى شبانٌ وشابات، تدربوا على احترام الحقوق الجندرية، و"لايف كوتش" يعرف من أين تؤكل الكتف وبرامج دولية موّلها البنك الدولي والأمم المتحدة. في الصندوق الثاني، جهازٌ بيروقراطيٌ مهترئ وموظفون حكوميون يدخنون أثناء الدوام، وعطلٌ رسميةٌ وملفات ورقيةٌ متآكلة.

في العلبة الأولى يافعون ويافعات، أنهوا دورتهم الثالثة في التنمية الاقتصادية المستدامة وعلاقتها العضوية بحقوق اللاجئين واللاجئات ومكافحة التمييز على أساسٍ عرقي. أما في العلبة الثانية، فأمنٌ وأجهزة استخبارات وغرف تحقيقٍ مظلمة، ودروس تفكيك المؤامرات الخارجية ومراقبةٌ حثيثةٌ للمندسين والجواسيس.

في العلبة الأولى تمويلٌ من مؤسساتٍ دوليةٍ غير حكوميةٍ تحرص على الشفافية والحياد، وتنفق حتى الدولار الأخير، من أجل الدعم النفسي والاجتماعي في البيئات الأكثر هشاشة. أما في الصندوق الثاني، مؤسساتٌ حكوميةٌ صدئة ومستوصفاتٌ توحي بثمانينات القرن الفائت وأوراقٌ وطوابع وأختامٌ خشبية.

في الصندوق الأول انفتاحٌ وتسامحٌ وحسٌ انسانيٌ مفرط وتعاطف ما بعد الحانات مع أطفال الشوارع وحقهم في التعليم وأكل الوجبات السريعة بدلاً من إعطائهم النقود. أما في العلبة الثانية، ففاشيةٌ وعنصرية وتأففٌ ونساء مسؤولين يلبسن الفرو الطبيعي وسيارات بأرقام مميزة ومواكب ومرافقين.

في العلبة الأولى ابن/ة عشرين ربيعاً، استبدل/ت دراسة الفيزياء بدورةٍ في الصحة النفسية أتبعها/تها بعملٍ تطبيقيٍ في اليمن أو دجيبوتي فصار/ت خبيراً/ةً بكل ما يتعلق بالشرق الأوسط وشمال افريقيا. أما في العلبة الثانية، فوزاراتٌ تنسّق مع الأمم المتحدة مشاريع توأمة من أجل افتتاح معمل إنتاج طاقةٍ بديلة او تعبيد طريقٍ في قريةٍ نائيةٍ تحوي ما تحويه من الأصوات الانتخابية.

في العلبة الأولى، تطبيعٌ وتمويلٌ من صندوق النقد وبرامج تحث على إشراك الفئات المهمّشة والبيئات المعرّضة. أما في العلبة الثانية، فـ"قرضٌ حسنٌ"، ومقاومة وممانعة وأموالٌ لا طائل لها، محزّمة بشرائط من أجود أنواع الشرف والكرامة، ومستوردة حديثاً من القارة السوداء.

في الصندوق الأول حوكمة رشيدة، ومعايير دولية وشبانٌ وشابات تركوا التظاهرات عندما أدركوا أنّ الفريش دولار سيحوّلهم إلى أشباه أناس، ولو لفترةٍ لا تتعدى الأشهر. أما في الصندوق الثاني، فوطنيةٌ فائضة وخطاب كراهية وحضٌ على القتل وتخوينٌ ودراجاتٌ نارية بخسة واستخدامٌ للفقراء لضرب الفقراء.

في العلبة الأولى مؤسساتٌ ثقافيةٌ وفنية، تُعنى بالحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.. وبرشّ رذاذ الغرافيتي على المنحوتات الإغريقية، وافتتاح صالات العرض والكوفي شوبس للمثقفين وحيواناتهم الأليفة. أما في الصندوق الثاني، ففنٌ بنّاءٌ ذو مضمونٍ واضحٍ ورسالةٍ خالدة وثياب سوداء ومعارض كتاب.

في الصندوق الأول أحلامٌ زهريةٌ وحريةٌ جنسيةٌ شرط ألا تتعارض مع التريند وتحمل المسؤولية الاجتماعية والخاصية الثقافية. أما في الصندوق الثاني، فكل شيءٍ مسموح شرط عدم خدش الحياء العام والبيئة الحاضنة وأحاسيسها الجياشة.

في الصندوق الأول، كل شيء ولا شيء. أما في الصندوق الثاني، فلا شيء وكل شيء. ولك حرية الاختيار.

ثوانٍ تفصلنا عن انتهاء الحلقة، المخرج أعطى تعليماته ومدير المسرح يتراقص على هتافات الجمهور. ها قد صبّت كل الإضاءة على وجهك المتصبب عرقاً. ينظر مقدم البرنامج في عينيك بضحكته المتلفزة وأسنانه البيضاء الناصعة. عليك الاختيار، الآن. إختَر الآن، إختَر والّا... "ديل أو لا ديل".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب