الإثنين 2019/06/17

آخر تحديث: 20:41 (بيروت)

حين هتف الساروت: حيّوا العلويّة!

الإثنين 2019/06/17
حين هتف الساروت: حيّوا العلويّة!
increase حجم الخط decrease
حمص – البياضة 2012
كنت أنتظر رؤية ذراعي الساروت لأعرف أن المظاهرة قادمة، ويبدأ قلبي بالخفقان، وعيناي باللمعان والفخر يملأ وجداني، إنها حارتنا: البياضة. 

أنظر من شرفة منزلنا ليراني الساروت وأنا المراهقة الحمصية غير المحجبة ويهتف: "حيّوا العلوية". يرد الجموع: "حيّينا".. يقول: "حيّو الحرائر"، يرد الجموع: "حيينا". 

أنا لست علوية ولا تعنيني كل الطوائف.. لكن الهتاف كان يُشعرني بفخر لا يوصف. نعم. ثورتنا وشارعنا ضد الطائفية. لكننا الآن، وللأسف وبعد تسع سنوات، وجدنا أنفسنا مضطرين لنشرح للعالم بكلمات الطوائف، أن عبد الباسط لم يكن طائفياً ولا متطرفاً. 

البياضة هو حي حمصي جميل يسمونه "عشوائياً". تسكنه غالبية مسلمة سنية، كما يقول الجميع. لكني كنت وما زلت أراه حيّاً سورياً وحارتنا كلنا. يقولون انه حي فقير، لكني كنت أرى أهله أغنياء بقيمهم ومشاعرهم ونخوتهم وخيراتهم. 

عندما بدأت المظاهرات في حارتنا، وتم الهجوم عليها، هتف الأطفال هجموا علينا العلويّة.. نعم قالوها وغضبت يومها لقولهم هذا.. ومنعت أختي ذات السبعة أعوام من تكرار هذا الكلام، وقلت لها: هدول شبيحة ما دخل العلويّة. 

استمرت المظاهرات واستمر مرور المظاهرات، وواصلتُ المراقبة من شرفتي. انتظر عبد الباسط وتحياته. أراه على شاشات التلفاز يقود المظاهرات. وعندما يأتي الى شارعنا أشعر أن نجماً هوليوودياً يزورنا. 

إزداد العنف ضد المظاهرات وأتى يوم حصار البياضة. أذكر كيف فاجأنا بقدومه الى شارع بيت جدتي ليلاً قائلاً: "ليش خايفين... الله معنا. بياضة نحنا معاكي للموت". 

في بيتنا الحمصي لا أحد يقوم بممارسات دينية، وليست لدينا سجادة صلاة.. لكن صوت ودعاء عبد الباسط كان ملائكياً. لا يمكنك ألا تشعر بالراحة والأمان بسماع دعواته. حتى أبي البعثي كان يرتاح لسماع صوته وينتظره. 

استمرت المظاهرات.. واستمر الفخر واستمر الرعب. بدأنا نرى مسلحين في حارتنا أسموهم "الثوار". أخافتني ذقونهم يومها، وقال لي ابن عمي أنهم من خارج الحارة. كان لدى بعض هؤلاء المسلحين ممارسات طائفية. صحيح.. نحن نعترف لأننا أنبل من الكذب. لكن عبد الباسط لم يكن طائفياً ولم يكن من دعاة العنف والطائفية. 

كنت خارج الحارة، عندما عدت الى المنزل وقال لي الجيران إن في حارتنا فنانة علوية. استقبلها عبد الباسط في بيته وكانت في حمايته. لا أنسى مشاعر الفخر والسعادة حين رأيت عبد الباسط وفدوى سليمان يهتفان للوطن.. لسوريا.. للحرية.. للتعايش قائلَين معاً: واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد. لقد أمسك يدها، قلتُ لأمي بسعادة. 

في حارتنا لا يتكلم الشبان مع البنات، كنت لا أستطيع أن أتمشى مع الشاب الذي أحبه في الشارع لأنه شيء غير مقبول في شارعنا. وبّختني المدرّسات في مدارس "البعث" مراراً عندما كنّ يرونني أمشي مع أصدقائي الشبان قرب المدرسة. لكن عبد الباسط كسر تلك القاعدة، نعم إنه علماني أكثر من مدارس "البعث". 

في البياضة لم نتعلم قيم التعايش والمواطنة من قراءة الكتب ولا من الثورة الفرنسية، ولا من المراكز الثقافية، لكننا تعلمنا الأخلاق والشهامة والحب من أمهاتنا وحكايات أجدادنا. كان جدي يقول لي، شارحاً تاريخ مدينته: "نحنا الحماصنة عايشين من آلاف السنين مع بعض".

أذكر حين استشهد باسل شحادة. أذكر كيف زفّه عبد الباسط قائلاً: "بدنا نفرح بزيادة.. باسل نال الشهادة.. باسل يا نِعم القادة.. عدربك نمشي كلنا". 

زفّه أمام الصليب في قلب حمص. وهل يقبل السلفي أن يكون قائده مسيحياً؟ نحن لسنا مسلمين ومسيحيين فقط. نحن سوريون، تجمعنا الحرية والكرامة. هذا ما قلناه دائماً. كان يوماً حزيناً في حمص وكانت السماء تبكي أبناءها، لكننا كنا فخورين.. فخورين بأخلاقنا. 

واستمرت أغاني الساروت وصوته يغرد في انحاء منزلنا. كان عبد الباسط يقول ساخراً من وصف النظام له بالإرهابي السلفي قائلاً: "أنا لرمضان الماضي لصِرت صوم".

غادرتُ الحارة وغادرتُ البلد. وبقيت أتتبع أخبار ابن الحارة، الساروت. لم أعد أسمع الكثير ولم أعد أعرف ما يحدث بالضبط، لكني كنت أعرف أنه ليس بخير. كنت أرى كيف كانت دوامات العنف تتقاذفه. 

في غربتي.. كنت أسمع أغانيه وأتذكر الثورة وأعرف أننا مستمرون. كنت أشرب كؤوس الحزن على بلدي وصوته يرافقني دائماً. رقصنا أيضاً على أغانيه في حانات الغربة. نعم، عبد الباسط كان معنا في كل لحظاتنا.. وفي لحظات سُكرِنا أيضاً، فهو صوت الثورة وهو جزء منا ونحن جزء منه.

نعم، هكذا نحن، جزء منا ينهار باكياً في بارات البلاد البعيدة، حزناً على الوطن، وجزء آخر ينهار في دوائر العنف على أرض الوطن، لكننا معاً منهكون ومتعبون وتائهون.

أكلم صديقي الحمصي في إدلب. أسأله عن أخبار الساروت يقول لي أنه بخير. "الساروت شخص منيح ولساتو منيح". لقد قاد المظاهرات مراراً في إدلب أيضاً. كنت اشعر دائماً أن الثورة مستمرة معه. الثورة ليست مستمرة بسلاحه بل مستمرة بضميره وبصوته. 

الآن غادرنا الساروت، غادرنا وهو يسعف أهل بلده، لكنه بقي رمز الثورة وأيقونتها. كما قال الجميع، عبد الباسط يشبهنا. يشبه الشارع، ويشبه الشباب السوري، ويشبه الحارة. سنستمر وسيرافقنا صوته وسنردد دوماً: سلامات عبد الباسط سلامات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها