الأحد 2022/11/27

آخر تحديث: 01:02 (بيروت)

لا ملاذ آمناً من الألفة.. ولا أجنحة للطيران

الأحد 2022/11/27
لا ملاذ آمناً من الألفة.. ولا أجنحة للطيران
لوحة: ماريوس بورغو
increase حجم الخط decrease
أنظر إلى الشجر وأعرف أن أوراقه ستصفرّ وسأكنسها عندما تتساقط تحته، وستتساقط من جديد وأكنسها من جديد.
أنظر إلى أظافري وأعرف أنها ستطول وسأقصها وستطول وسأقصها وستطول.
أقف أمام وجبة غدائي، وأفكر كم مرة بعد سأعيد تحضيرها وطبخها وتناولها وغسل الأطباق من بعدها، والشعور بالامتلاء المقرف بعد تناولها.
أجلس في الحديقة وأترقب سماع ما أسمعه كل يوم، عن الطقس وسرطان الثدي وسعر كيلو الشاي، مع إجابات ساخرة أحضرها سلفًا لتخفف من وطأة التكرار.

أنظر فأرى وأسمع، فأخرج هاربة من ألفة المشاهد والأصوات والكلمات التي تصرعني. أهرب من تكرار قيلولة بعد الظهر والملل الذي يسبقها والميلانكوليا التي تتبعها، ومن الأغاني ومناسباتها ومن ذاكرتي المشتركة مع كل من يحيط بي، ومن كل التحيات الصباحية والمسائية والأسئلة التي تأتي معها كحزمة جاهزة، ومن إجاباتي المقتضبة والمكررة التي أسمعها وهي تخرج حرفًا حرفًا من بين شفتي، ومن ابتساماتي المفتعلة.

أهرب لألتقي بغرباء، لكن لا غرباء.
كل شيء مألوف على هذا الكوكب، ولا ملاذ أهرب إليه سوى كنبتي.

أعرف كل مواضيع أحاديثكم، وأحاسيسكم تجاه مواضيع أحاديثكم. أستطيع أن أكمل جُملَكم، وأن أتوقع أنواع ابتساماتكم وضحكاتكم وأمراضكم وكيتشاتكم وكليشيهاتكم ومحطات كلامكم وتذمراتكم. وأستطيع أن أتكهن من أنتم، ومن أين أتيتم، وأي بلاد تغربتم إليها، ومِهنكم ومعدّل دخلكم وصدق انفعالاتكم ومعاناتكم.. ليس لأن لدي قدرات خارقة، فكل من يعرفني سيؤكد أنه بالكاد لدي قدرات عادية، لكن لأنكم تعلنون كل شيء، بكل حركة تقومون بها، وأنا أعرف كل الحركات... رأيتها وسمعتها وهربت منها.

أهرب من هذه الألفة التي تجعلني قادرة على إكمال أي من نكاتكم، وأي من طلبات غدائكم، وأي لحن تدندنونه، وخبر تشاركونه ومسلسل تتابعونه وأزمة تتذمرون منها.
تلك الألفة التي تقرب المسافات، تنفرني وتبعدكم عني.

لا يوجد ما يستفزني، فقط ما ينفرني. نفور من الألفة التي تصبح جدراناً بلا نوافذ، وتضيق كل يوم أكثر، وتولّد رغبة في الخروج من الجِلد، والطيران فوق هذا العش الكبير الذي لا شيء جديد سيفقس من بيضه.

أهرب بحثًا عن صمت لا يقول شيئاً ويقول كل شيء، وصوت لا أتعرف عليه، وملابس لا تذكرني بإعلان، ومفردات لم أستعملها ولغة لا أفهمها، وبحثًا عن نظرة تخترقني ولمسة تلتصق بجلدي.

أخرج بحثًا عن غريب، لكن لا غرباء.
حالكم ومفرداتكم هي حالي ومفرداتي، لكني بالكاد أتكلم وبالكاد أخرج، وأنتم على الأرجح لم تسمعوني ولم تروني ولم تنفروا من الألفة التي تجمعني بكم. أنا غريبة إلى حين أتكلم، فتنفرون.

كل شيء مألوف على هذا الكوكب، ولا ملاذ أهرب إليه حتى كنبتي، بالأخص كنبتي التي تألفني وآلفها وآلف أفكاري المكتظة التي رتبتها عليها. لا ملاذ آمناً من الألفة، ولا أجنحة للطيران.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها