الخميس 2022/05/26

آخر تحديث: 18:11 (بيروت)

الهروب من وصمة النكد

الخميس 2022/05/26
الهروب من وصمة النكد
increase حجم الخط decrease
إنها الوصمة التي تلاحقنا منذ الأزل. حين أقول نحن، أعني النساء. وحين أقول الأزل أعني أنني لا أستطيع تعقب أصول هذه التهمة، متى نزلت علينا ومتى صدر الحكم الذي يضعنا، نحن النساء، في خانة "المخلوقات النكدية". لكنها تهمة لازمتنا منذ وقتٍ طويل، حتى أمست حقيقة راسخة، من فئة الحقائق البيولوجية والنزعات المتأصلة في تكويننا الخلقي.

في جلساتهم وعلى مسمع من نسائهم، كثيراً ما يستحضر الرجال، خصوصاً أولئك العالقين في زيجات تعيسة، سيرة المرأة النكدية عبر نكات مبتذلة ومكرّرة تفجّر قهقهات عالية وتشدّ أواصر التضامن بين أبناء الجنس المضطهد بقوة النكد. بعد سماع كم هائل من هذه النكات، بما تحمله من حقد وازدراء مبطنين، قرّرت أنني لا أريد أن أكون الكليشيه الأنثوي، المرأة النكدية التي لا يرضيها شيء و"لا يعجبها العجب". المرأة التي تستخدم العدوانية السلبية كسلاح، وتجيب بوجه متجهم "لا شيء" حين تُسأل "ما الخطب عزيزتي؟"..

وكي لا يساء فهمي، لم أتوصّل الى هذا القرار من باب الخضوع لسردية الذكور ورغبتهم، وإنما ببساطة كي لا أكون هدفاً لنكات رديئة وميزوجينية. لكن في محاولتي تجنب هذا الوصف، وإزاحة ثقل هذه التهمة عن كاهلي، وجدت نفسي مضطرة للقبول بأمور تخالف رغبتي، لقول كلمة "نعم" حين أرغب حقيقةً بقول "لا".

لكن قبل الشروع في نبذ هذه الصفة عني، أدركت أنه لا بدّ لي من الاجابة على سؤال بسيط وأساسي: ما هو النكد؟ فبالرغم من كونه، الى جانب الهيستيريا ربما، من أكثر الصفات سلبيةً التي يتمّ نعتنا بها، لا بل تعميمها علينا، يصعب وضع تعريف واضح له. وخلافاً لـ"ظاهرة" الهيستيريا التي يمكن تفكيكها ووضعها في سياقاتها التاريخية والطبية والنفسية، فإن مفهوم النكَد الأنثوي يظل فضفاضاً، من دون تعريف أو تفسير يوضح سيرورته التاريخية ودينامياته الاجتماعية.

فلنستعِن باللغة إذاً، واللغة العربية تحديداً التي تسترسل في تفسير هذا المصطلح ووصفه. النكد، بحسب تعريف القاموس، هو "الشؤم" و"اللؤم". هو "تقليل العطاء" أو "عدم إعطائه البتة". تذهب اللغة العربية أبعد من ذلك في اظهار أهوال النكد، عبر تحميله صفة الشرّ، إنه "كل شيء جرّ على صاحبه شَرّاً"، بالإضافة الى مرادفات أخرى مثل "قلّة الخير"، "عسر العيش" و"سوء الحظّ". مصطلحات أخرى مثل "تعِس"، "شقاء"، و"خبث" تنضم الى الحقل المعجمي للنكد. ثلاثة حروف تختزل كل هذه الصفات السلبية، لا بل الفظيعة. ومع أن اللغة العربية لم تخصص هذه الحروف الثلاث للنساء حصراً، لكنها بطريقة ما أصبحت مرتبطة بنا ومعبّرة عنّا. أضحك إذ اكتشف أننا سبب "عسر العيش" و"سوء الحظ" في عالمٍ يحكمه الرجال وهم يُملون قوانينه.

لم يُفدني المعجم في ايجاد علاقةٍ بين النكد والنساء، فأقرر مقاربة الموضوع من زاوية أخرى. ما المرادف الذكري "لنكد النسوة"؟ أتساءل، علّ المماثلة تعينني على فهم دينامية هذا الصراع الجندري. حسناً، الاجابة واضحة. إن كان النكد يجسّد النموذج السلوكي الأسوأ لدى النساء- سواء كان ذلك أسطورة أم حقيقة اجتماعية أم جَوراً ذكورياً. فنظيره الذَّكَري هو الذكورة السامة، أو الماتشيزمو. لكنه مرادف ناقص لا يضاهي فائض الذكورة من حيث وضوح المعالم والممارسات والخلفيات. فباعتبار النكد عنفاً رقيقاً، بالشكل الذي يصعّب تحديد آثاره وحدوده الملموسة، تضحي هذه التهمة ورقة شاملة وقابلة للاستخدام ضدّ أي كان، أو بالأحرى كانت، وفي أي سياق. هو الورقة التي يتمّ سحبها في وجهنا في كل مرة نحتجّ، نعترض أو نتأفف. العذر الذي يستخدم من أجل كمّ أفواهنا في كلّ مرّة نقدم على نطق كلمة "لا".

أجد أخيراً تعريفاً مناسباً لمفهوم النكد. هو الـ"لا" الأنثوية. لكنها "لا" مكتومة وغير مُعبَّر عنها، لأننا نعي مسبقاً محدودية هذا التعبير وعجزه عن إنصافنا.. هذا إن أتيح لنا ذلك أصلاً. "لاؤنا" لا تنتمي الى لغة الكلام التي ليس منها طائل أمام لغة السلطة المكرًّسة في سلوكيات مجتمع كامل، سلطة تقف كحائط أصمّ أمام أي مناورة كلامية. فكم من "لا" نحتاج الى نطقها، الى الصراخ بها، قبل أن تكتسي بالشرعية؟

في النهاية، أدرك أن لا مهرب من وصمة النكد إلا عبر التخلي عن "لائنا" الأخيرة. فأي احتجاج من قبلنا ضدّ هذه السلطة، ضدّ أي من قوانينها، سيتم وضعه في إطار النكد. أي محاولة منا لإعادة التفاوض حول الديناميات الجندرية، سيتم وضعها في إطار النكد. إن ما يسمونه نكداً هو خيار النساء البراغماتي في مجابهة سلطة لا ترضخ لمفاوضة أو محاججة. هو أداة سياسية للمواجهة والرفض، حين تنعدم سائر سُبل التمرّد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها