الأربعاء 2017/10/04

آخر تحديث: 14:00 (بيروت)

..ولأجلنا تُلعب كرة القدم

الأربعاء 2017/10/04
..ولأجلنا تُلعب كرة القدم
هذا الغاز القاتل يجب توجيهه للسلطة ومؤسساتها الفاسدة، وليس لخنق جمهور أعزل (المدن)
increase حجم الخط decrease
حين صرخ يوسُف منذ سنتين بصوته الرفيع والقوي على منصة المدينة الرياضية: "نجمة نجمة"، أدركت فوراً أن ما أصابني سيصيب ابني لا محالة. وقف قرب سياج حديدي، وراح يغني ويرقص ويعبّر عن فرحته. ابن السنوات الأربع آنذاك، أصيب بمرض "النجمة نادي الوطن"، وبات يشاهد المباريات معي. يسألني عن النتيجة، فأخبره بكل فرح وسعادة عمّا يحصل، كأنني أعلّمه التنفس أو الكلام أو الحب.


لا أحب يوم الإثنين، فهو ثقيل عليّ. بعد يوم عطلة في الضيعة، استيقظت بنصف نشاط، وأفكار قليلة. لكن مساء الإثنين الماضي، وعلى غير العادة، كان يحتضن مباراة لناديّ المفضل "النجمة" ضد غريمه التقليدي "الأنصار". أنهيتُ عملي ورتبت أموري، واتفقت مع شلة من الرفاق على اللقاء في المدرّج. في العادة أقصد الملعب باكراً، للاستمتاع بترانيم الجمهور وقصائده، وشتائمه المضحكة.

أراقب امتلاء المدرج على مهل. يتوافد شبان وعائلات وأطفال وشيوخ. هنا حيث نهتف سوياً، لا فرق بين غني وفقير، بين مثقف وأمّي، بين يساري ويميني، بين منكسر ومتفائل. كلنا سعيد وقضيتنا واحدة. هنا حيث الحب بأشكال مختلفة، نتعانق مع من لا نعرفهم ونحتفل بالانتصارات. وهنا أيضاً نبكي ونشتم ونلعن، وقت الخسارة، لكننا لا نحيد عن الدرب. يتغير الزمن وتتكاثر الهزائم، ونبقى مخلصين لفكرة واحدة وحالة واحدة. لا يمر يوم الا ونتحدث عن "النجمة"، عبر مجموعة أنشأناها خالد وعماد وزياد وحسين محمد وعلي وجاد وثائر ونادر وأنا. نحن من نتنفس كرة القدم، ونتابع أخبارها كأنها حبيبة.

لا أذكر متى بدأت تشجيع "النجمة"، لكنني كنت صغيراً عائداً من الكويت بعد اجتياح العراق لها، فتعرفت على النادي من أصدقاء الضيعة، شاركتهم ولعهم، فتغيرت جدران غرفتي وباتت ملعب كرة قدم، يحتضن عشرات الصور والملصقات للاعبي "النجمة". أغفو وأستيقظ على صور لأشخاص يشعرونني بأمان وسكينة.

في الملعب، حيث يتوافد الآلاف، نتحدث عن المباراة كأنها النهاية. لا نمل من التحليل ولا نتعب. نتحول الى مدربين وواضعي خطط وتكتيكات دفاعية وأخرى هجومية. نسمع في المدرج نظريات المؤامرة، وأفكاراً قد لا تمر في بال عاقل. ومع إضاعة فرص سهلة، نتحوّل الى شتامين للاعبينا، ومدافعين عنهم في حال تعرضهم لإعاقة أو ظلم من حكم المباراة.

جميلة كرة القدم بزعرنتها وقلة أخلاقها أحياناً. فالسكون والهدوء، ليس من شيم جمهورنا. نحن ملح هذه الأرض. نحن الموج الهادر. نحن الحب والعشق والجنون. نحن صلاة الغائب ونوافذ الفرح المشرّعة، مستقبلة الشعراء والعمال والفلاحين والكادحين. نحن سماء الربيع، و"نجمة" بعيدة من الحقد والطائفية. نحن الأصحاء والمقعدون، نهتف ولا نتعب: نجمة! نجمة! نحن نفسٌ وروحٌ وقمحٌ ونبيذٌ ودعاءٌ وقمرٌ وبحرٌ وتعبٌ وحنجرة، وكأس يلوح في الأفق. نحن غمرةٌ وقبلة. نحن كل هذا وأكثر.


لكن يوم الاثنين الأسود، كما سميناه لاحقاً، كان جحيماً بالنسبة إلينا. خسر الفريق ضد الغريم التقليدي بخمسة أهداف لهدف. كنا ننهار على المدرج، مراكب لاعبينا لم تُحركّها رياح حناجرنا. فغاب اللعب الجماعي، وكثرت إضاعة الفرص السهلة، فغرقنا في هواجسنا وتساؤلاتنا. نحن من نهتف ولا نتعب، اختنق صوتنا وبات بلا صدى. مع كل هدف تلقيناه، انهارت مئات منا. ومع غزارة الأهداف التي تلقيناها، بكينا وتألمنا واهتز كبرياؤنا. كنت أنظر الى وجوه شاحبة بلا لون. عيون مسمّرة على ملعب المدينة الرياضية، لكن بلا أمل ولا حول أو قوّة.

لم تتحمّل فئة صغيرة من الجمهور الخسارة المذلة، فراحت تكسر مقاعد الملعب البلاستيكية وتقذفها صوب القوى الأمنية، تنفيساً عن غضبها من أداء الفريق. كانوا يركلون الكراسي المسكينة ويحطمونها إلى أجزاء. تلك المقاعد التي احتضنتنا لسنوات ولملمت عرقنا ودمعنا، تحولت إلى طائرات نفاثة تُقذف في وجوه رجال الدرك. مع تلقينا الهدف الخامس، غادر محمد وحسين وعلي وزياد الملعب، لكنني بقيت في كرسيّ، كأنني في لا وعيي، أريد الحفاظ عليها، خوفاً من تهشيمها. لكن فئة صغيرة غير واعية من الجمهور، قفزت من منصة الدرجة الثانية إلى الأولى، حيث كنت ورفاقي، فاغتالوا الكرسي التي حاولت حمايتها، وقذفوا بها صوب خيمة لاعبي الاحتياط والدرك. كانوا شباناً يرون ما حلموا به يوماً ينهار. في مقتبل العمر، يتصرفون بلا وعي، ولشدة "المعارك" ضربتنا القوى الأمنية بغاز مسيّل للدموع. فرحنا نتنشق هواء ملوثاً بالغاز وحب "النجمة".

عشرات الشبان سقطوا على الأرض من تأثير الغاز. منهم من راح يفرك عينيه، فنحذّره من فعل ذلك، ومنهم من احتمى بجسد صديق له. لم أفكر في تلك اللحظة إلا بيوسُف حبيبي. ماذا لو كان معي؟ هل ستتحمل رئتاه الصغيرتان كل هذا الحقد؟ كيف كنت سأتصرف لو حدث له مكروه؟ لعمري، كنت سأقتلع مقعداً وأقذف به رجل الأمن الأرعن لعلي أقطع يده القاتلة التي ضربتنا بالغاز.

هناك فهمت علاقتي الملتبسة مع السلطة والدولة، فبالنسبة اليها نحن أشخاص غير مرئيين، صالحون فقط لدفع الضرائب وتحمّل غلاء المعيشة، نحن مواطنون بلا وطن. وهناك أيضاً فهمت لماذا أحب "النجمة". هذا النادي الذي جمعني بأشخاص من كل بقاع لبنان، نتحدث سوياً في المدرّج من دون سؤال عن هوية أو مذهب. نحن المارقون على هذا الوطن، نعيش فيه كأرقام ولسنا بشراً!


كيف يقذف رجل أمن مدرّجاً، بغاز قاتل؟ مدرّج يضم أطفالاً ونساء وشيوخاً وأبرياء وزعران أيضاً. هذا الغاز القاتل يجب توجيهه للسلطة ومؤسساتها الفاسدة، وليس لخنق جمهور أعزل. والكارثة أن الغاز تسرّب الى ممرات مغلقة تحت المدرّج، هي الطريق الوحيد للخلاص والعبور. ركضنا للهرب من الموت ودموعنا تتطاير، وصدورنا ممتلئة بغضب وحقد وغاز قاتل، ليستقبلنا الجيش بهراواته السوداء ورفسات رجاله للبعض منا.

لم أكن يوماً من مثيري المشاكل، ولن أدافع عن تلك الفئة الصغيرة التي خرّبت الملعب واعتدت على القوى الأمنية، ونحن مع محاسبتهم. لكن من غير المسموح أن تعاملنا القوى الأمنية بقلة مسؤولية ونية القتل والله أعلم.

في الطريق إلى العبور، سقط بعضنا على الأرض من شدة اختناقه، فساعدناه على النهوض مجدداً طالبين من الدفاع المدني تأمين العلاج اللازم له. سقط بعضنا وتقلصت رئتاه، لكن حلمنا لن ينكسر، نحن شعب "النجمة" العظيم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها