الإثنين 2022/08/08

آخر تحديث: 11:02 (بيروت)

عاشوراء الألم واللذة

الإثنين 2022/08/08
عاشوراء الألم واللذة
من مراسم إحياء عاشوراء في النبطية العام 1971
increase حجم الخط decrease
ترتبط مجالس العزاء الحسينية، في ذاكرتي الطفولية، بمَشاهد سارة ولطيفة. هي مَشاهد تقف على النقيض التام مما تجسّده مناسبة عاشوراء، سواء في ذاكرة الطائفة الشيعية بما فيها حزنٍ وأسى وذنب، أو في مخيلة الطوائف الأخرى بما تمثّله من عنفٍ وغرائبية وإنزال الأذى بالذات.

فأنا لم أكن أعرف عن ذلك الطقس، الذي لم يتم اصطحابي اليه يوماً، سوى الكيس الأسود المليء بأرخص أنواع الحلوى والعصير، والذي تعود به جدتي من أحد مجالس العزاء أو "التِّعزيِة" كما تقول بلكنتها الجنوبية. كان ذلك قبل أن تتحول مجالس العزاء الى مسرح لاستعراض الإمكانات المادية والتنافس الطبقي.

وبينما كانت تجتمع نساء الحارة في منزلٍ ما لإحياء ذكرى أهل البيت، كنا نحن الأطفال نحيك المؤامرات من أجل اختراق الجلسة المغلقة وسرقة بعض الحلوى. كنا نحاول إقناع الأصغر سناً بيننا بالقيام بهذه المهمة، لكن الجميع كان يتملص. فهم يعلمون ما يحدث في الداخل؛ نساء تبكي وتنوح، ولم يكن أي منهم يرغب في مشاهدة مهرجان النحيب الأنثوي هذا. أما أخي وأنا، فكنا كالأطرش في الزفة، إذ لم يسبق لنا أن شاهدنا هذا الطقس من قبل، ولذلك لم تكن لدينا جرأة التطفل على عالم لا يخصّنا.

ما كان لنا إذن سوى أن ننتظر عودة جدتي التي تطلّ علينا بعينين متورمتين من أثر البكاء. لكن وجهها كان يشرق ما إن ترانا وتقدم لنا الكيس المنتظر. كانت تنسى عطش الحسين لحظَة ترى سعادتنا ونحن نتجرّع شراب "البونجوس" دفعة واحدة.

في التاسع من عاشوراء، كان أهالي الحيّ يتجهون سوية الى وسط البلدة من أجل مشاهدة المسيرات والعروض التي تقام في ذلك اليوم من كلّ عام. كان الحيّ في ما مضى يُعرف بـ"حارة الشيوعيين" في ما يسمى بمدينة الحسين، لكن ذلك لم يمنعهم، حتى في أوج شيوعيتهم، من إحياء هذه الذكرى بكلّ طقوسها، حتى ما ينافي منها عقيدتهم المستجدّة.

أذكر بشكلٍ خاص إحدى نساء الحيّ المسنّات، والتي كانت تروي لي أمّي حكاياتٍ عن قوتها وعزمِها الاستثنائيين. كانت فلاحة، مات زوجها باكراً واضطرت الى إعالة أولادها وحدها، فأضحت الإمرأة الجبارة في الحقل وخارجه، تلك التي لا تستسلم للحظة ضعفٍ، أقلّه ليس علناً. كانت تلك العجوز الجنوبية، أثناء سيرنا في اتجاه مركز الحِداد، كثيرة الأحاديث والمزاح والقهقهة. لكن ما إن تسمع صدى أناشيد الرثاء آتيةً من بعيد، حتى تنقلب ضحكاتها نواحاً وعويلاً. تمسك منديلها وتلوح به صائحةً "حبيبي يا حسين! حسين يا مظلوم...".

كان معظمنا يضحك إزاء هذا التحوّل المفاجئ في حالها، وبعضنا يرى فيه نفاقاً وتمسرحاً. لكن ما لم أفهمه يومها، هو أن هذه المناسبة تشكّل، بالنسبة لتلك المرأة المسكينة، فرصتها الوحيدة للإسهاب في الحزن وإظهار علامات الضعف. كانت محنة أهل البيت عذرها لذرف الدمع، الدمع الذي منعت نفسها عنه طوال حياتها، باستثناء تلك الأيام العشرة في السنة التي يصحّ فيها البكاء، للنساء والرجال سواسية. كانت في تلك الأيام المعدودات، لا تبكي فاجعة كربلاء فقط، بل تبكي حالها وخساراتها. كانت دموعها صلاةً، تقضيها مرةً في العام، تروي بها عطش الحسين وعطشها للحزن ورثاء الذات. وكانت تفعل ذلك بالحدّة نفسها والتفاني ذاته، وبشيءٍ من الآلية التي تعيش بها حياةً جافة من الدموع والوهن باقي أيام السنة.

وفي المسيرات العاشورائية الليلية، تلك التي يلفها السواد من كل حدب وصوب، أكثر ما كان يلفت انتباهي هو التفاحة الحمراء التي تباع في الأكشاك والعربات الجائلة. تفاحة مغطسة بقَطْر أحمر براق يشبه الدماء التي تحتقن في حناجر الرادودين والندّابين طوال تسعة أيام، قبل أن تتناثر في اليوم العاشر. كنت أحدّق في تلك التفاحة وألعق شفَتي العلوية. كنت أشتهيها، رغم أني أكره التفاح ولا أتناوله سوى بالقوة، وقد سبق لي أن تذوقت هذه التفاحة بالذات، وأعلم أنها تقريباً غير صالحة للأكل. لكنني كنت أريدها، رغم ذلك. كانت رغبتي في تناولها رغبة هوامية بامتياز. فكم كان منظرها شهياً، شهياً ومثيراً، كأنها مُستعارة من أحد فيديوكليبات المشاكسة ماريا. كان يروق لي هذا الكونتراست البصري الحادّ؛ الأحمر الفاقع البراق إزاء الخلفية العاشورائية السوداء... ورغبة تتقفى أثر اللذة وسط الحِداد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها