الأحد 2022/07/03

آخر تحديث: 01:49 (بيروت)

مُتنا من ندرة الوقت

الأحد 2022/07/03
مُتنا من ندرة الوقت
increase حجم الخط decrease
يدغدغ قلوبَنا احتمالُ العمل أربعة أيام في الأسبوع، دواماً معتمداً وفق القانون، نحن الذين لجأنا إلى بلاد الغرب هربًا من جوع أو حرب أو ضيق أفق. ثلاثة أيام بحالها... لنرمي أجسادنا على كنباتنا، نحملق في السقف من غير حاجة إلى الالتفات نحو هواتفنا لتفقد الساعة وأرقام الدقائق بجانبها، ولا إلى مواصلة السباق المحموم مع مواعيد التسليم. ثلاثة أيام... يوم للنوم، وآخر للأمل في شمس متسامحة، وثالث لوجبة تؤكل برفقٍ وحزن يمليه علينا التفكير في اليوم التالي موعدًا للعودة إلى عجلة العمل. اليوم الثالث، الأعذب والأغلى، هو برِقَّة الحبِّ المشارف على الذبول مع غياب كتف الحبيب في ضباب مدينة أوروبية. بعده، أنت عائد إلى المسرح الكبير حيث تؤدي دورك: مهني لكن منهك، ينجز أعماله على أكمل وجه كما لو أنه شغوف ونشط.

هذه الأيام الثلاثة هي أيضًا مَهلَكة. تركض خلالها خلف الأعمال المنزلية المتراكمة. تقلّب رسائل لم تستطع الرد عليها، أو لم تشأ، ومع ذلك هي ضاغطة وملحاحة كما الواجب. إجازة تحشر فيها مواعيد لم يتسع لها الأسبوع، معظمها التزامات مقنَّعة بطيف النشاطات الأسبوعية. وهكذا تصبح لقاءات الأصدقاء قاهرة، محشورة في جدول المهمات تحت خانة التحايل على العزلة وتغذية الروح ورفع المزاج، لمواصلة العيش.

ثلاثة أيام لا تكفي الأرواح العليلة بأفكار منهِكة، ولا تنعش الأجساد المثقلة بها. لكن الوهم الدائم يقتضي الظنَّ عند كل دورة أسبوعية، أن هناك فرصة للنجاة. يهدأ خفقان القلب، ويستريح تأهبٌ تشبَّث بالكتفين من الخلف، وتموضَع عند مثلث يأخذهما رغمًا عنهما إلى أسفل الرقبة. مثلَّثُ الشِدَّة والتوازن الذهني والثبات العاطفي المصطنع...

رجوة هذه الإجازة الأسبوعية تفوق عدد أيامها... فمنذ متى كانت الأيام زادَنا من الراحة الأبدية؟ ولأن الحياة تخبئ الحِكَم في بطن الموت، وقلةٌ منا تمتلك جسارة مغازلتِه، نرتضي اللعب مع خيالات العيش البسيط. والرضا مجروحٌ بأفكار موروثة عن قدرات الاحتمال الخارقة التي تجعلنا من أخيار هذا العالم. أخيارٌ بؤساء. وهو أيضًا مشحونٌ بوصفات القناعة الحديثة، بأن السعي إلى السعادة ممكن فقط وفق جرعات، ميزانُها أوهامُ العصر، وأن ما تعتقده جالبًا لها هو طيف من هلوسات، لا شفاء منها إلا بنبذها وطردها، كما لو كانت شياطين هاجت في حلقة ذِكْر. هذا الرضا موهومٌ أيضًا، إذ ليس بتملكه أذهانَنا، تستكين أرواحُنا وتحيا أجسادُنا.

كل صباح، تبقيك آلام الرقبة وتشنجات عضلة الساق اليسرى في سريرك، لا تقوى على النهوض. حينما تعاند وتصارع تقوقُع جسمك في منحنياته، تكون أمام معركة مع آلام ماضيك وقلق مستقبلك وسأم الحاضر. عليك التغلب على اللامعنى والعدم، وابتداعُ معنى تلبسه لأفعال تشبه تلك التي تنتظرك في يومك. يوم العمل المجدي والمجزي...

كلنا أشبه بغريغوري سامسا في "التحول" لفرانتس كافكا. ونردد صرخته خائفين من الانزلاق إلى الحياة، "يمكن أن يكون المرء آنيًا غير قادر على العمل، وسيكون هذا هو الوقت المناسب تمامًا لتذكر منجزاته السابقة، وللتفكير في أن هذا المرء لاحقًا، بعد زوال العائق، سيعمل حتمًا بهمة وتركيز أكبر".

نحن سامسا كل صباح، ونريد الوقت، كل الوقت.
معركتك اليومية، تخوضها على أمل أن أيامًا ثلاثة ستغير فصلًا من فصول حربك.
لكنك تعلم أنها ستكون كما قبلها، لن تتمكن فيها من إنهاء محادثة واحدة عالقة بينك وبين نفسك. وإن تمكنت من رفع غسيلك عن المنشر بهمة غير معهودة، فأنت موعود بيوم معقول.

لكن محاولات رفع المزاج اليومي، وتكرار التعويذات الصوتية، وريُّ النباتات ومداعبات الحيوانات، لها مدة صلاحية. لا تبهج الجسد ولا تعافيه، فهو قادر على التكيف مع التعب، لكنه لا يحتمل الكذب. والحقيقة تقول أننا متنا من ندرة الوقت. فالحب محفز الأجساد الحاضرة اليقظة، تقوى برعايته. براعم الحب لا تزهر بأرجل راكضة وصدور لاهثة، بل بالوقت.
ندرة الحب من ندرة الوقت. وهكذا سقطنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها