الجمعة 2018/07/27

آخر تحديث: 18:42 (بيروت)

ماذا فعلنا يا ميّ؟

الجمعة 2018/07/27
ماذا فعلنا يا ميّ؟
increase حجم الخط decrease
لم نتقابل يوماً، ولم نتبادل أطراف الحديث عبر الهاتف. لم أكن من معجبيكِ ولم ينتبني أي شعور تجاهكِ، إلا أن موتك ثقب قلبي وخلّف فيه فجوة من الحزن يصعب ردمها.
اعتدتُ رؤية منشورتك الغاضبة والثائرة في "فايسبوك"؛ المكان الوحيد الذي يجمعني بك منذ ما يقارب العامين. أذكر حينها أنني كنت أرغب بإجراء حوار صحافي معك لمناقشة دور الفن في الثورة، فأرسلت لكِ طلب صداقة بالإضافة لرسالة متضمنة طلبي، حينها قبلتِ صداقتي وقرأتِ رسالة والتزمتِ الصمت.

أزعجني صمتك كثيراً حينها، فالرفض عندي كان أهون من تجاهلي. إلا أنني لا أنكر أن أولى الأفكار التي راودتني حين تلقيت خبر وفاتك، أن أرسل لك رسالة، لا يهم ما أكتب فيها، بل المهم أن تصلكِ لأدرك أن الخبر ليس سوى إشاعة مقيتة، وليطمئن قلبي عندما تقرأينها قبل أن تتجاهليني مجدداً.

عزيزتي مي سكاف. لا أعلم لماذا هزني خبر وفاتك من الداخل! أرعبني وأخافني، جعلني مستيقظة طيلة الليل، جلستُ أفكر وأفكر في كل ما حدث وما لم يحدث. للحظة رأيت نفسي فيكِ، تخيلتُ أنني أموت بصمت وحيدة في الغرفة  الباردة التي سأعيش فيها في أوروبا إن حدث واستطعت الرحيل من بيروت التي تخنقني وترفض أن تتركني أتركها.
ماذا فعلنا يا مي؟ لتكتب لنا كل تلك النهايات الحزينة؟

هتفنا للحرية في أحد الأيام! ذلك هو ذنبنا الوحيد، فاعتُقلنا وشُرّدنا ونُفينا. إنهم يريدون محوَنا وشطبنا من سجلات سوريا. لم تنقل أي محطة سورية رسمية نبأ وفاتك، يبدو أنهم يريدون أن نموت بصمت، وأن ينسى العالم أصوات هتافاتنا، إلا أنهم لا يعلمون أن للموت ضجيجاً صاخباً يعبر حواجزهم التي كسرها صوتك قبل ثمانية أعوام.

إنهم يراهنون على موتنا، وفي كل موت لنا يحتفلون بانتصاراتهم الوهمية. نتساقط في المنفى. وفي المنفى نتوارث الثورة، وفي سوريا يبقى الأسد! وتراهنين أنت على الأمل بأنها يوماً ما ستكون سوريا العظيمة. عبارتك الأخيرة تلك انتقلت من حائطك في "فايسبوك" إلى أحد الجدران كشعار ثوري على أرض الواقع.

أزور صفحتك في "فايسبوك"، أرتعش من كلماتك، أعود إلى صفحتي، وأعدّ أصدقائي، أتفقد من بقي منهم على قيد الحياة؛ أعدّ كم صديقاً لي مات في المنفى ولم يتبقّ منه سوى الصور وصدى كلماته في "فايسبوك"، وأخاف أن يأتي يوم وتُحذف حساباتهم، فتكون التكنولوجيا قد تكفلت بمحو آخر ما تبقى لنا منهم.

اليوم يتداول الآلاف صورك، ويعيدون نشر كلماتك كما جرت العادة؛ إذ باتت للسوريين طقوس خاصة للتعزية، لكنهم غداً سيزيلون الصور، ويتناقلون موضوعاً آخر أكثر رواجاً. مَن سيزور قبرك يا ميّ، ومَن سيزور قبري؟ حُرمنا من أبسط حقوقنا، ليس بمقدورنا أن نموت بسلام وسط أحبابنا وأهلنا، وليس بمقدورنا أن نُدفن في أرضنا. 

أخاف أن أموت قبل أن أرى عائلتي مرةً أخرى، أخاف أن أموت هنا. سمعت قبل أيام أنه لا يسمح للسوريين ومن في حكمهم، بأن يدفنوا موتاهم في الأراضي اللبنانية! ومع ذلك، لم يتوقف السوريون عن الموت هنا. لذلك ربما، اعتدنا أن نزور صفحات الموتى في "فايسبوك" بدلاً من زيارة القبور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها