الأربعاء 2021/12/22

آخر تحديث: 20:16 (بيروت)

"كان من الطبيعي أن تَسكُت".. قصة تحرّش

الأربعاء 2021/12/22
"كان من الطبيعي أن تَسكُت".. قصة تحرّش
increase حجم الخط decrease
ما هو تاريخ السفر؟.. سألها وهو يفلفش في أجندته.
أخبَرَته بالتاريخ فأجابها بلهفة: ممتاز. سأكون على الطائرة نفسها. قال ذلك وهو يدوّن شيئاً في المفكّرة.
استغربَت الأمر، لكنها لم تستفض في التفكير، فهي تعلم أن مديرها كثير الأسفار. حدثٌ واحدٌ أعاده إلى ذهنها، حين اقترح عليها مسؤول الحجوزات ألّا تحجز فندقاً بما أن ثمة مكاناً مناسباً يمكنها النوم فيه سيكون فارغاً أثناء زيارتها. رفضَت بهدوء، وحُلّ الأمر. تابعت أعمالها بشكلٍ عاديّ في وظيفتها الجديدة إلى حدّ ما، حتى إنها مع اقتراب موعد السفر نسيت تماماً أمر ربّ عملها وأمر سفره.

في المطار، كانت سعيدة كعادتها كلما غادرت لبنان في رحلة إلى أوروبا. تتخيّل الرحلة قبل أن تبدأ، تقلّب الأمكنة في رأسها، حتى إن لم تكن تعرفها. في الحقيقة كانت سعادتها تزداد أكثر إذا كان المكان جديداً عليها. المهم، تجوّلت في المنطقة الحرة في المطار، وانتقت بعض المكياج من كحل وبودرة، وكريماً مرطّباً للوجه. تحبّ أن تعتني بنفسها خلال السفر، كما أنها في حينها كانت لا تزال تتأنّق حين تسافر. ما زالت تذكر أنها أرادت أن تشتري تايوراً حين ركبت طائرةً المرة الأولى. ليلتها، حلمت بالطائرة وكانت في الحلم حتّى تنتعل حذاءً بكعبٍ عالٍ. اليوم، الملابس الرياضية ترافقها في السفر، وتتربّع قدماها في أكثر حذاءٍ رياضي مريح تستطيع شراءه.

حين حان موعد الصعود إلى الطائرة، كانت جالسة في مقاعد الانتظار حين رأته يتوجّه إلى باب الطائرة، فتذكَّرَت. لم تهتمّ كثيراً، لا سيما أنها علمت طبعاً أنه سيكون جالساً في درجة رجال الأعمال، فيما تذكرتها هي درجتها اقتصادية، لذا من المرجّح أننا لن تلتقيه في الطائرة حتى.

ظلّت في مكانها تنتظر أن يصعد المسافرون فيقصر خطّ الانتظار، وحين لم يعد هناك غيرها، دخَلَت. مشت في رواق الطائرة وهي تنظر أمامها مباشرة. لا تعلم لماذا تفادت النظر إليه، وتوجهت مباشرة إلى مقعدها.

حين أقلعت الطائرة غفت كعادتها دائماً. تتجنّب الاستيقاظ قدر استطاعتها لأن الوقت يمرّ ببطء ويثقل نفَسُها دائما في العلوّ. لكنها نادراً ما تتمكّن من النوم من دون تقطّع لأكثر من نصف ساعة. المهم، حين صحَت، مذعورةً كعادتها أيضاً كلّما غفت على متن الطائرة، رأته قادماً من خلف تلك الستارة الصغيرة التي يفصلون بها بين درجات السفر. كان يتغندر كأنه شاب إنما بشعر أشيب. لم تفهم سبب قدومه. وبما أنها لم تكن قد سافرت في درجة الأعمال من قبل، لم تعلم إذا كان يريد استخدام الحمّام الواقع في آخر الطائرة أم لا. انشغلت وهو يمشي باتجاهها بتحسين جلستها ولملمة بقايا النوم عن وجهها. حين وصل إليها، ابتسم لها وسألها في أي فندق حجزت. ارتبكت قليلاً لأنها كانت قد اختارت فندقاً بخمس نجوم، وجَدت سعره غالياً، لكن الشركة وافقت لها على حجزه. أجابته مبتسمةً ثم صمتت. "حسناً، اعتنِ بنفسك وأراكِ في المطار".

هزّت رأسها إيجاباً، وبمجرد أن أدار ظهره، ارتمَت في مقعدها مجدداً تحارب قلقها من الطائرات وهوائها الثقيل وخوفها من الأماكن المغلقة، وقد أضيف إلى المزيج الآن ترقّب لشيء مزعج قد يأتي عمّا قريب.

ماذا قصد بجملة "أراكِ في المطار"؟.. لا شيء على الأغلب، سوى أنهما حين ينزلان من الطائرة سيجدان نفسيهما في المطار بالطبع، وقد يلتقيان هناك. تجاهلت كلياً نبرة الثقة التي اعترت صوته وهو يقول "في المطار". ظلّت الأفكار تتزاحم في رأسها حتى تغلّب عليها التعب وغفت من جديد.

حين استيقَظت، كانت الطائرة على وشك أن تحطّ في ذاك المطار الأوروبي. سارعت إلى وضع علكة في فمها، وبدأت تمارين التنفّس والاسترخاء إلى حين لامست الطائرة الأرض، فهدَأت. نزلت من الطائرة متلهّفةً للقادم من مشيٍ ولقاءاتٍ ولكلّ جديدٍ قد يصادفها هناك. أخذت شنطتها وتوجّهت إلى خارج المطار، وهناك وجدته ينتظرها وبصحبته شخصٌ جاء ليحمل له أغراضه ويرافقه.

"أين كنتِ؟ هيّا تعالي".
"إلى أين؟"
"سأوصلك معي، لا داعي لطلب تاكسي وتكبّد تكاليف".

كان ذِكرُ التكاليف كافياً لإسكاتها. ما الذي سيحدث إن ركبت تاكسي معه؟ لا شيء بتاتاً. ركبت بكل هدوء، وارتدَت ابتسامةً على وجهها طوال الطريق إلى وجهةٍ لا تعرفها، ولم يتمّ إعلامها بها بعد.

"هل سيوصلني السائق إلى الفندق؟".
"سنرى الآن كيف تجري الأمور. سنمرّ أولاً على منزلي لنضع الحقائب".

مع كل كلمةٍ وكلّ خطوةٍ وكلّ دقيقةٍ تمرّ، كان عدم ارتياحها يزداد، لكنها تعلّمت أن تثق في نفسها التي راحت تهدّئها بتخفيف وقع هذا الاهتمام المفاجئ بها، والذي يصحبه في الوقت نفسه تجاهلٌ كاملٌ لما تريده وما يريحها. قرّر أن الأنسب لهما أن يذهبا أولاً إلى منزله، وكانت حجّة التكاليف التي سبق أن رماها في وجهها سبباً كافياً لإسكاتها مرة أخرى، إضافةً إلى بعض التوتر من تجنّبها الواضح له الذي كان أشبه بمزيجٍ من الرفض وعدم فهم ما يحدث.

وصلا إلى منزله وتوقّفت السيارة أمام باب البناية مباشرة، فإذا بالسائق يحمل حقيبتها أيضاً ويتوجّه إلى المصعد. طلب إليها النزول من السيارة ومرافقته إلى "فوق".

"لا داعي لذلك، إذا أمكن للسائق أن يوصلني إلى الفندق سأكون ممتنّةً لأنني متعبة".
"لدينا غداء عمل. أودّ أن ترافقيني خلاله. سنضع الأغراض ونذهب إلى الغداء ثم تغادرين".
"إذاً، علينا ترك حقيبتي هنا في السيارة. لمَ نُزعج الرجل بها مرّتين؟".

أصبح صعود حقيبتها إلى منزله بمثابة ضغطٍ بدأ يزيد عن حدّه. تنفّست بعمقٍ ونزلت حين رفض اقتراحها، وكان السائق قد وصل إلى المنزل أساساً ووضع الحقائب في الصالة. المهم صعدت لتنتظر وقت الغداء. لم يقبل عقلها أيّاً من حججه، لكنها فهمت بالفطرة أن الإكثار من الرفض لم يكن سيفيدها بأيّ حال.

أدخلها إلى "غرفتها" لتستخدم الحمّام الموجود فيها ولترتاح قليلاً. أغلقت باب الغرفة وجلست على السرّير تتساءل لأيّ من أولاده كان هذا السرير يعود.
مرّت ربع ساعةٍ ناداها من بعدها إلى الصالة. فذهبت لملاقاته كي يتوجّها إلى الغداء. كان واقفاً إلى جانب طاولةٍ مستديرةٍ في زاوية الغرفة. وضع يده في جيبه وسحب رزمةً كبيرةً من المال قدّر قيمتها تقديراً ثمّ مدّ يده إليها بها وقال: "روحي اعملي شوبينغ".

صُعقت للحظة. نظرت إلى يده وإلى الأموال في يده. ذكّرها بأبيها حين يرتدي بنطلوناً من القماش ويسحب المال من جيبه ليدفع ثمن شيئاً ما اشتراه للتوّ من السوبرماركت مثلاً. ما الذي يشتريه هذا الرجل الآن؟ سألت نفسها بتمهّل، وإلى أيّ حدّ سيذهب في المزج بين وسائل الجذب، من تحبُّبٍ واهتمام، إلى اصطحابها معه إلى غداء عمل، إلى محاصرتها، فمحاولة شرائها بالـ"شوبينغ". تساءلت إن كان الاغتصاب احتمالاً وارداً في هذا السياق.

"أشكرك، لديّ ما يكفي من المال إن رغبتُ في شيءٍ ما"
"يمكنك الذهاب إلى متجر (xx) لديهم بضائع ممتازة".
"أشكرك على النصيحة وعلى العرض الكريم الذي سأضطرّ لرفضه. هلّا طلبت لي تاكسي؟ أشعر فعلاً بتعبٍ شديد".
"لكن مضيفي على وشك الوصول إلى المطعم وعلينا الانطلاق إليه الآن. هيّا بنا".

مشى باتجاه الباب ولحقَت به. لن تصرّ على رفض كلّ ما يقترحه، فهو في النهاية صاحب العمل ويمكنه أن يقرّر أن يسلبها عملها، لذا فالدبلوماسية ضرورية. ذهبا إلى ذاك الغداء المنتظر، فإذا بصديقه الذي ينتظر هناك، وهو أحد رجال الأعمال اللبنانيين المعروفين، يبتسم لها ثمّ يوجّه نظره إلى صديقه ويقول:

"أهلاً أهلاً، ما هذه الطلّة البهيّة! أهي مثل صديقتنا الإعلاميّة؟"، سأله صديقه وهو يغمز كأنّها لن تراه، أو كأنّه ببساطةٍ لا يهتمّ إن رأته. شعرت بعدم القدرة على السكوت أكثر فأجابته ووجهها أكثر احمراراً من الصّوص في الصحن الموضوع على الطاولة: "كيف تجرؤ على الإدانة والتعميم بهذا الشكل؟ ليست النساء كلّهن سواسية يا أستاذ!".

حين انتهى الغداء الذي كانت أشبه بتمثالٍ خلاله، أصرّت بشراسةٍ على الذهاب إلى الفندق وهكذا حدث، فمن يريد قضاء الوقت مع تمثالٍ أساساً؟ شعرت بأنّها أشبه بتلك الخنفساء التي تصطنع الموت لتحمي نفسها من الخطر المحدق بها. كان أوّل اصطدامٍ فعليّ لها بواقعٍ يدفع فيه بعض الرجال في العمل كلفة الشوبينغ، ليشتروا أجساد البنات، ويذهبون في وقاحتهم حدّ التباهي بأولئك النساء أمام أصدقائهم. من يعلم، ربّما أخذت المئات من البنات من قبلها هذه الأموال واشترين بها ثياباً جذّابةً لبسنها له بغنجٍ ودلال، وذهبن بها أيضاً إلى دعوات الغداء والعشاء الكثيرة التي كانت لتَلي. في أيّ حال، لم يكن على وجهها، في تلك اللحظة، أيّ علامة غنج، بل كان بياضاً خارجيّاً تامّاً، وغضباً داخلياً شديداً من مواقف كثيرة مرتقبة، علمت أنها ستضطرّ إلى مواجهتها، وحدها، بمزيدٍ من الثبات. وكان أوّلها هذا الاستعراض لها أمام صديقه في غداءٍ لم تكن له أيّ علاقةٍ بأيّ عملٍ أساساً.

حين عاد كلّ منهما إلى بيروت لم يُذكر الموضوع، ولو مرّة واحدة. كان من الطبيعي أن تسكت. وكان من الطبيعيّ أيضاً أن تعلم، في كلّ مرّةٍ، السبب الحقيقي لأيّ موقفٍ غير مبرّرٍ منها. كان تحدّياً أرادت أن تربحه، فرفضت التنحّي، فالأمر في نظرها لم يكن يتعلّق به وحده، بل بوجودها كلّه، وبهويّتها كامرأةٍ عاملة وبملايين النساء الأخريات.

قد تكون الطائرة في هذه القصّة قد حطّت في فرنسا، أو بريطانيا، أو سويسرا ربما، لا يهمّ. كما أنها قد تكون قد حدثت معي أو مع صديقةٍ لي، لا يهمّ أيضاً. فهي قصّةٌ تتكرّر كثيراً في المكاتب أينما كان، وتأخذ في كلّ مرّة انعطافةً مختلفة، ربما بحسب الأشخاص الذين يؤدّون الأدوار فيها. لكنّها تصبح أكثر خطورةً في بلدٍ مثل لبنان، حيث قانون تجريم التحرّش الجنسي المستحدث مؤخّراً لا يستوفي المعايير الدولية، ولا يحمي الشخص الذي يتعرّض للتحرّش، في مكان العمل أو خارجه، وحيث القانون من أساسه لا قيمة له في ظلّ الممارسات القادرة على اختراق أيّ منطقٍ أو نظريةٍ قانونية. كما يبقى طبعاً أن المتحرّش الذكي لا يترك دليلاً يدينه، وبذلك تكون في حالاتٍ كثيرة كلمة المرأة قليلة الخبرة، مقابل كلمة الرجل المحنّك صاحب النّفوذ.

هذه قصّةُ 30 إلى 40 في المئة من نساء لبنان، بحسب إحصاءٍ أُجري قبل أعوام، في بلدٍ يُقتَل فيه المئات من دون أن يُحاكم القتَلة، فكيف لأيّ منّا بعد أن يتوقّع أن يُحاسَبَ متحرّشٌّ؟...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها