الأربعاء 2022/01/19

آخر تحديث: 15:58 (بيروت)

معكرونة فاطمة

الأربعاء 2022/01/19
معكرونة فاطمة
increase حجم الخط decrease
أحمد غزيري، مواليد آذار 1930، رقم السجل 325، محلة الباشورة، النويري، أبوه أَنَسْ وأمه فاطمة، أو أنثوني وفاتيما، على ما ورد في سجلات دوائر النفوس الأميركيّة. نفسان من ملايين الأنفاس المنسيّة في أميركا، والنَفَس أَمارة الحياة وكل نَفْسٍ ذائقة الموت، على ما حفظه أحمد من أمه وأنار قلبه وطريقه في نيويورك، تفاحة المدن وخاتمتها. لراحة نفسه ونفس نيويورك، الفاتحة.

فاتحة حكايته احتفال والديه بختانه في مولد صاخب أحياه منشد المدائح النبوية طه مراياتي وجوقته، ترامى على مدّ السمع من البَسْطَتَيْن الفوقا والتحتا إلى نزلة خندق الغميق وسور مقبرة الباشورة. "بوركت يا أم الحسنين يا فاطمة الزهراء، يا آمنة يا أم الزين يا حاملة البشرى، والست زينب نور العين وخديجة الكبرى". عند ذكر اسم فاطمة، رفع المنشد صوته فَرَقّ قلب أَنَسْ وتلوّى، إذ مَنّته زوجته بإنجاب صبي ففعلت ابتهالات طه مراياتي فعلها في كشف عواطفه حيالها. جمعتهما المودّة، لا الحب. شيءٌ آخر وسِمَا به وكُنّيا بسببه أَنَسْ أخو أحمد غزيري، وفاطمة أخت هارون عمران. السبب أن والديهما كانا مِزواجيْن وعُرِف كل منهما بنسائه أكثر من أولاده، وعرف الأولاد بعضهم بعضًا أكثر من أبويهما، ولم تعرف فاطمة أن أغنية طه مراياتي تعصر قلب زوجها بالحنان. عرفت أنها ليست أم الحسنين، بل أم أحمد، ولاحقًا أم المحمدين بعد ولادة ابنها الثاني محمد.

بالتسبيح والبسملة والأدعية، طلع البدر ورأى أحمد النور وهلّ به الفجر صيف العام 1930. مرّ نيف وشهر على قلع قلفته وتطهيره على وقع الرق والدف والغناء بمديح "أحمد يا حبيبي، سلام عليك، يا عون الغريب، سلام عليك".

ويركض العمر في لمح البصر وألتقيه في مانهاتن السفلى، أوائل أيلول 2011. حيّاني في لهجة نيويوركية داخلتها لكنة خفيّة لازمته في مهجره الأميركي منذ خمسينيات القرن الماضي. اقترحت محاورته في الإنكليزية. أبى. أصرّ على سماعي في محكيتي البيروتية الذائعة في فساطيط البسطة والنويري ورأس النبع، محلّاة ومدلوقة على نغم چِلّاوي. ما نَغَمَ بحرف عربي واحد إلّا وتعثّر. أودى به البُعْد والغربة إلى لغة ضالة ضلال الكلمة في الجملة والجملة في المعنى. يا حرام يا أحمد. غدت لغة الضاد ضدّه. تعسّر نطقه
⁃ "Tell me more about Basta area"
- إيريا؟
⁃ "Yes, please"

أعادني إلى البسطة. كأن مانهاتن على مرمى حجر منها. ألفيته واهنًا على غير صوره في المسرح والتلفزيون والسينما. أسَرّ أنه في حاجة إلى جرعة حنين تنسيه ألم جرعات كيميائيّة تناولها قبل أسابيع. جرعة حنين من مدمن نيكوتين، من أفضالي. خذ ميسورك واترك معسوره. امتثلت لرغبته. حدثته بلهجتي الوافدة من مسقط رأسه ومرفع قدميه. أخبرته أن طه مراياتي أعطاه عمره وورث ابنه محي الدين فرقته ومنشديه. أسلم المنشدون أرواحهم تباعًا، وحان أجل محي الدين أخيرًا، فأسكت الله نأمته وانقرضت الفرقة، خلفتها فرق عدة لم تترك أثرًا حتّى جاء الحاج محمود شعر وأنشأ جوقة وسّع نشاطها من البيوت إلى الشوارع والمحافل العامة. ازدهر وأثرى من تسجيل الكاسيتات وبيعها وتوزيعها. طبقت شهرته آفاق تلّة الخياط، العام 1983، وبلغت أوجها حين استضافه "تلفزيون لبنان" مغنيًا الموشحات والمدائح النبوية في شهر رمضان. كشَعْرِ الرأس، يصعب عدّ حفلات محمود شعر. في النهاية، خلص عمره. غادر الدنيا. "بالفانتوم طار إلى الجنّة"، على تعبير مُحِب شارك في تشييعه. 
- Strange
- مش ستراينج إلّا الشيطان. 
- …No, No…That song…Fatima…

وأطرَق. لم ينبس. تركته لسكوته. انتهزت الفرصة مُلملمًا مرويات جمعتها من أقارب أَنَسْ غزيري وجيرانه، أدركت الكهولة بعضًا منهم وصار أكثرهم في دار الحق. السيّد أَنَسْ نمرة. تنمرّ قوم محلته على لفظه السين ثاءً. نادوه "أَنَث" ولم يتوانوا عن الاعتذار إذا امتعض وغضب وأنّب. احترامه واجب. على يده، تأسست أولى محامص البن في النويري إيريا. عمل لحساب آل الحمصي، أكبر مستوردي البن العدني والبرازيلي. أوكلوا إليه تخليص بضائعهم المشحونة بحرًا إلى مرفأ بيروت وتخزينها في العنابر قبل توزيعها على نقاط البيع. يأتي عارفوه على ذكره ورائحة البن فائحة من ملابسه ومسام جسمه. بعد عشرين عامًا من الخدمة، صارح معلمه، رشيد الحمصي، أنه نوى فتح تجارة خاصة به. جاوز الأربعين. الغد غدّار. لم يلمس شيئًا في حياته سوى البن. التمس أزره في تثبيت خطاه. امتنانًا لإخلاصه، أكرمه رشيد، كبير الحماصنة وعميدهم، بثلاث آلات تحميص مستعملة بلا مقابل، وسبعة شوالات من البن قرضًا بلا فوائد يُسدّد في غضون سنة من تاريخ بدء العمل. دشّن أَنَسْ دكانه صيف العام 1938. سمّاه "بن غزيري"، ميّزه بعلامة "إيطالي فاخر"، زيّنت واجهته الزجاجيّة، مقرؤة ومكبّرة للفت الأنظار، رسمها خطّاط بأحرف فارسيّة بديعة، ملوّنة بالأحمر القانئ ومظلّلة بأبيض فاتح. تحقيقًا لربح عاجل، أوهم زبائنه أنه يبيع بنًّا ذا نكهة فاخرة ونوعيّة أجود من العدني والبرازيلي. واتته فكرة إيطاليا من إكثار زوجته من طهو المعكرونة. بين البن والمعكرونة، اخترع أَنَسْ خرافة إيطاليا في النويري إيريا. رغم اندلاع الحرب العالميّة الثانية، سارت أموره على أكمل وجه ورُزق بصبي ثان، محمد، أقام له أفراح الطبل والزمر في حفل عرمرم أسفر عن قلع قلفته. نحا حياته العائليّة عن كل مكروه. حسب ألف حساب لويلات الحرب وما درى بنازلة أليمة نزلت عليه من السماء، من كعب الدست، رُزَّت وتدًا في قلبه الكسير. يا عالمًا بحاله عليك اتكاله. اختلفت الأقوال. احترازًا من تبنّي شهادات غير متطابقة، اكتفيت بالمتفق عليه، أن فاطمة وصغيرها محمد فارقا الحياة معًا.

****
أَنَثْ بلا أنثى. وحيد. في عنايته ابن وحيد ودكان. بحلوها ومرّها، لُفِظَت الحياة من أنفاسه. "الحياة نَفَس"، قالت فاطمة. وعلى قولها، مضى وكابد وتكتّم متظاهرًا أن لا شيء تغيّر. أَكْثَرَ من إطعام ابنه المعكرونة وزايد على طريقة زوجته في تحضيرها. أضاف حبقًا وباذنجانًا وثومًا مُقلّى. عزاؤه المعكرونة. كان يضعها على نار بطيئة وينتظرها حتى تغلي وتكر الدموع من عينيه سابحة في مائها المملح. أعطى وصفة نادرة في الطهو، سلق المعكرونة بالدمع. أبكته رائحتها غبطةً وغمًّا. غبطة لأنها تذكار فاطمة، وغمًّا إذ بقي له أن يشمّها، لا غير. رائحتها مَراح روحها. على رواح أبيه إلى المطبخ، تعوّد أحمد. تفهمّ انهماكه في تحضير مأدبته وامتناعه عن النظر في عينيه أو التحدّث إليه على مائدة الطعام. إذا فعل، كلّمه عن الأكل أو غمزه داعيًا إلى سكب مزيد من المعكرونة في صحنه. تألّم أَنَسْ في السرّ صونًا لمشاعر ابنه، وبادله أحمد بالمثل. النفوس أسرار والبيت مظهر الأسرار وساترها. أفشى البيت سرّ أحمد وأبيه، وضاقت بهما جدرانه. المكان مزاج صاحبه، يعيش على سعده ويحد لحداده. اختنق دكان أَنَسْ وأرمَل. "الإيطالي الفاخر" مات. في بطء مات. رُدَّ الاعتبار إلى البرازيلي والعدني في محامص جديدة تعاقب على فتحها فلسطينيون في البربير والنويري إيرياز. غمّت على بن غزيري شهرة بن عدنان ومنافِسَيْه طافش والحوت. سئم أَنَسْ عمله. انشغل بترحيل ابنه. أوصى أخيه أحمد المقيم في نيويورك برعايته، وتكفّل شهريًا بأقساط دراسته مما تيسر من مدخراته.

****
في الأعوام القليلة السابقة على هجرته، عاش أحمد حدادًا مزمنًا على أمه وأخيه، متابعًا دراسته ومخفّفًا عن والده ساعات العمل أيام العطل. ربّ ضارّة نافعة. الفضل لجمال أرناؤوط، صاحب دكان خضر وفواكه في جوار "بن غزيري"، تحوّل في فرص الأعياد قاعة سينمائية مرتجلة جذبت أطفال الإيريا وشبّانها على السواء. سمح أَنَس لابنه بالعمل في القاعة. تولّى الأرناؤوط بيع التذاكر. التذكرة كناية عن ورقة مقصوصة باليد من دفتر مدرسي مهترئ، عليها رقمٌ لا يشير في الضرورة إلى كرسي معيّن طِبْق خريطة تقسيم المقاعد. عرض متواصل. شاشة مُشعة بالصور يخترق ضوءَها خيال يتسرَب إلى القاعة أو يخرج منها. لا استراحة. هيصة. ضحك. صراخ. أسنان مصطكة ببزر السنكوان، تأكل لبّه وترمي قشره أرضًا. الجوّ رطب ودخان السجائر محرقة العيون. لا فيلم معيّنًا. بل مشاهد مبعثرة من أفلام جمّة، حازها الأرناؤوطي من مكاتب موزعين تقاضى منهم أجرًا لقاء تلفها حرقًا إثر نفاد صلاحية عرضها. قصّها عشوائيًّا. كدّس مقاطعها المبتورة فوق بعضها البعض، ملقّنًا أحمد جمعها ولصقها في شريط ولفّه في بكرات منفصلة وإمرار البكرة تلو الأخرى، تناوبًا، بين آلتي عرض. لا قبل الأرناؤوطي ولا بعده جُمِع نجوم السينما ومخرجوها في فيلم واحد. كلارك غيبل، همفري بوغارت، ماري كويني، غريتا غاربو، علي الكسار، غلوريا سوانسون، جيمس كاغني، نجيب الريحاني، لورنس أوليڤييه، بهيجة حافظ، ستيڤان روستي، ألفرد هيتشكوك، نيازي مصطفى، راؤول والش، أحمد بدرخان، جون فورد، راقية ابرهيم، كارول لومبارد، مع الاعتذار ممن فات ذكرهم. غاب عن علم مؤرخي السينما ونقّادها ثورة الأرناؤوطي في الفن السابع. بالسهل الممتنع، وضع نظريّة "خزّق ولزّق" موضع التطبيق، حاشدًا الممثلين وصانعي أفلامهم على اختلاف أممهم وأجناسهم وصورهم وأصواتهم ورواياتهم. لم تستطع السينما استيعابهم في مكان. الأرناؤوطي استطاع. نزلوا متوادين في ضيافة أرَّث زقاق في النويري. كفى الأرناؤوطي عزًّا امتنان أحمد غزيري له واستذكاره مَعْلَمًا ومُعلِّمًا. إلى تحميص البن وطحنه، أصبح أحمد مونتيرًا وعارض أفلام. تولع في عشق الممثلين. مثاله الأعظم جيمس كاغني، نجم العالم السفلي، غانغستر الحارات النتنة وعدو الشعب رقم واحد. كان أحمد من طرزه، مُلَملَم الجسم، وقليلًا أطول منه. حبّه الكبير جيمس وسرّه الأكبر كاغني. نام على سرّه لئلا يُحرم من الذهاب إلى أميركا. مارس التقيّة قبل عقود من إشهار الخميني ولاية الفقيه. شأن كلّ وليّ أمر، عارض أَنَسْ رغبة ابنه في دراسة التمثيل. أراده باش مهندس أو طبيبًا. حلم في لافتة معلقة على شرفة، يزيّنها الاسم الثلاثي أحمد أَنَسْ غزيري، تخطف أنظار المارّة في الشارع وتشير إلى تخرّج صاحبها في جامعات الولايات المتحدة. شهادة ابنه إثبات تخرّجه من الجامعة. واللافتة شهادة له تردّ نسب ابنه إليه وجزاء فضله عليه، علنًا. 

****

دقائق معدودة وإنّما طويلة قضاها أَنَسْ وأحمد في طريقهما إلى مرفأ بيروت. كان يوم أحد رطبًا من تموز/يوليو 1948. أقلتهما سيارة أجرة، سائقها حسن حاسبيني، جارهما في الطبقة الأرضيّة من المبنى. مشهور بمنشفته المتدليّة حول رقبته، زهريّة اللون، استعملها لمسح العرق المتصبّب منه صيفًا وشتاءً. بدين جدًّا. لامس كرشه مقوده. بعد نزولهما من السيّارة، رأى أَنَسْ رفيقه من أيّام عمله في المرفأ، بائع الليموناضة، جميل ضاهر. حيّاه. منذ صغره، أحب أحمد أكل كعك الأرشلي مغمّسًا بالليموناضة. غمزه أَنَسْ. سارا صوب جميل وعربته المفروشة حامضًا وكعكًا ولوح ثلج وآلة عصر. لحقهما الحاسبيني وفي يديه شنطتا سفر، كابد ثقلهما فداء البقشيش معزّزًا بكوب ليموناضة. على عجل، شرب كوبه. وعلى مهل، تلذّذ أحمد وأبوه في الشرب. أخيرًا، حانت اللحظة. ربّت أَنَسْ على كتف ابنه. هَمَّ بمعانقته. لم تحمله رجلاه. تهاوى باكيًا. أعانه الحاسبيني على الوقوف، ممسكًا إبطيه، وغمر أحمد وجنتيه بكفيّه واعدًا برجوعه مهندسًا يُضرب به المثل وترفع النويري رأسها فخرًا بعماراته. هدأ روع أَنَسْ قليلًا وتلقّى وعد ابنه كتأدية يمين الطاعة والإخلاص. وفي الفعل، لم يؤد أحمد قَسَمًا وإنما أظهر مقدرة على التمثيل اقشعر لها بدن الحاسبيني. كان وعده وداعًا أخيرًا مفعمًا برائحة بن صاحبته على متن الباخرة أكيتانيا/Aquitania. استغرقت رحلته أربعة عشر يومًا عابرةً مرافئ حيفا، اسطنبول، بور سعيد ونابولي، محطته ما قبل الأخيرة. في نابولي، غابت رائحة البن وحلت رائحة المعكرونة محلها، رائحة فاطمة، أمه، كأنه ودّع أباه ضنًّا بملاقاة أمه والاستئناس بها حتى بلوغ برّ أمانه في نيويورك. مثلما أعادني إلى البسطة لأروي روايته، أوصلته صاغًا سليمًا إلى نيويورك وكلّي آذان صاغية لسماعه وملء الفجوات المبهمة في روايته. 
"That song…Fatima…"، 
همهم وأطرق. ظننت أنه تذكّرالأغنية ونسي لحنها وكلماتها. أسعفته متمتمًا، "بوركت يا أم الحسنين يا فاطمة...
‏- No, Fatima was my mother

****
وفاض الكلام مدرارًا من ثغره. لن أثقل على القارئ عبء تدوينه مثلما سمعته وسجّلته في الإنكليزية مرفقًا بترجمته العربيّة. آثرت اقتباسه مباشرة إلى العربيّة، تاركًا بعض تعابيره في لغته الأصليّة، مبيحًا لنفسي حريّة التصرّف معقودًا على وخز الضمير حيثما حرَّفت وانحرفت في الاقتباس وأسأت إلى أمانة النقل. "فاطمة أمّي"، قال، "حين توقفت الباخرة في نابولي، أخذ النسيان منّي أبي وردنّي إلى أمي. غريب كيف يستحيل النسيان ذكرى. ليس صحيحًا أن النسيان يمحو ويبدّد. الذاكرة تثبت في زمن، في مكان، في صورة. النسيان متحوّل، يغيب، ولو موقتًا، مدركًا أن الشفاء ليس معجزته. عندئذ، يخلي مكانه. يتركنا وشأننا حتى نفتقده فيؤوب. لا يأتي فرضًا. نحن نستدعيه. في ملاذ القلب، النسيان ترويحة النفس".

"الحياة نفس"، قالت أمه. لم تعاوده كلماتها في نابولي. عاودته صورتها الأخيرة. الصورة جرح. بجمالها، تنزف المشاعر. صورة أمه مِنْزَفَة مرارة وسمته علامةً فارقة من قُسَاة الشاشة في بطولاته السينمائيّة الأولى. آية أدواره الشريرة فيلم "كاپوني" للمخرج ستيڤ كارڤر. أكانت ناپولي، أو معكرونة أمه المتبلة بصلصة البندورة والألم، وراء تمثيله دور المافيوزو الإيطالي؟. معلومٌ أنّ رَدَحًا من غربته وسعيه في مناكب نيويورك سبق انتحاله آل كاپوني، عام 1975. استكمل دراسته الثانوية، حصل على الجنسيّة الأميركية. طوال الأعوام الخمسة الأولى، تحمّل العيش في كنف عمّه أحمد والردّ على زوجة عمه وأبنائه كلما نادوا أحمد وحسب أنهم كانوا ينادونه.بات كنف عمّه كفنًا. قرّر السير في سبيله. المال المرسل من أبيه قليل. بشقّ النفس نظّم مصروفه. عمل نادلًا في مطعم إيطالي. غمرته رائحة فاطمة. ملأت كيانه. تبارك بها. تذكّر أباه ووَعْدَه. وعدُ الحرّ دَين. وعليه، شرع في دراسة الهندسة، أو حاول. فشل. لاحت فرصة العمر. حصل على منحة في ورشة لفنون الدراما أدارها المخرج والكاتب إيروين پيسكاتور في مدرسة نيويورك للبحث الاجتماعي، وكان في رعايته لي ستراسبورغ وستيللا أدلر ورفاقهما من مؤسسي "استديو الممثل" (Actor’s Studio) وتكوين ممثلين من عيار مارلون براندو وجيمس دين وپول نيومان. على إيروين پيسكاتور، تعلّم أحمد غزيري وانضمّ في ما بعد إلى "استديو الممثل". فتنه المسرح. بدلاً من جيمس كاغني، ألهمته لوريت تايلور عشق التمثيل. بعد مشاهدته لها في مسرحية تينيسي وليامز، "حديقة الحيوانات الزجاجية"، اكتشف معنى أن يكون ممثلًا. برضا الله والوالدين، وإن نكث العهد المقطوع لوالده، فُتحت الأبواب و"قال له الكريم خذ". أخذ من مسارح برودواي أدوار بطولة، باكورتها "إنتهِ كرجل" لكالدير ويلينغهام، عام 1953، وذروتها عملان متتاليان، عام 1955، "مطر ملء قبعة"، عن رواية كتبها زميل دراسته في ورشة إيروين پيسكاتور، مايكل غازّو، و"قطّة فوق صفيح ساخن" لتينيسي وليامز. من برودواي إلى هوليوود انتقل معيدًا تمثيل مسرحيته الأولى "إنتهِ كرجل" في فيلم حمل عنوان "الغريب"، أخرجه جاك غارفن عام 1957، أعرض عنه الجمهور وأثنى عليه النقاد بما مهّد بروزه متوسطًا جيمس ستيوارت ولي ريميك في أحد ألمع أفلام أوتو پريمينجر، "تشريح جريمة"، عام 1959. نجاحٌ باهر وغير كاف، فلم يكرّسه الفيلم فتى أول للشاشة وإنما الممثل المناسب لشخصيّات الظلّ. في ستينيات القرن العشرين، أنصفه التلفزيون أكثر من السينما. وفي السبعينيات، غيّر جون كاساڤيتيس صورته وهذّب قسوته في ثلاثة من أجمل أفلامه، "أزواج" و"موت وكيل مراهنات صيني" و"ليلة الافتتاح". وبين أواخر سبعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، اختاره، على التوالي، پيتر بوغدانوڤيتش في "سانت جاك"، والإيطالي ماركو فريري في "حكاية من الجنون العادي"، والأخوان إيثان وجويل كووين في "ليبوسكي الكبير"، وسپايك لي في "صيف سام" والدنماركي لارس ڤون تراير في"دوغڤيل". من أصل 133 فيلمًا شارك في تمثيلها، نمّت العناوين الآنفة عن قلّة عمله في السينما المستقلة وغزارة حضوره في السينما الرائجة. معليش. "السينما أكل عيش"، صدقت زينات صدقي. يا الله يا أحمد. كثيرك قليل وقليلك كثير يا كبير النويري وأهلها. وعدتهم بناطحات السحاب ووفيت الوعد أفلامًا ومسرحيات ومسلسلات لا يملكون منها شروى نقير. لم يندم. اعتبر نفسه في حلٍّ من عهوده. اعتزّ بسمعته المكتسبة من تجربة استمرّت أكثر من خمسين عامًا. زهرة شبابه وعطائه خمسينيات القرن العشرين وأضواء المسرح. "لو عاد بي الزمن إلى الوراء"، قال،"لن أفعل غير ما فعلت. بلى. ربّما أحث جمال أرناؤوط على استبدال أشرطته السينمائيّة المبتورة بعروض مسرحيّة". على حدّه، الفيلم يُروى بالقطع. والانتقال في ثوان معدودة من لقطة إلى أخرى يستنزف ذهن المُشاهد ويركّز انتباهه على مونتاج مُلزِم، مصمّم لرؤية الفيلم على نحوه. إذا سها، ضاع. في المسرح، يمرّ المشهد متكاملًا في وحدة مكانه ومدته الزمنيّة من دون قطع سوى الانتقال إلى فصل آخر. المسرحيّة مساحة العين. مونتاجها ملك المُشاهد. يجزئ المشهد ويفصفص مكوّناته. "تخيّل عدد العيون في عرض مسرحي وخمّن كم من مونتاج يحصل في أثناء العرض"، قال. سايرته معلّقًا، "قد يحذف المتفرّج ممثلًا من مجال نظره. قد يؤخذ بجزء خال من الديكور. قد تبهره الإضاءة. وقد وقد. على قدّ الـ"قد" يتكاثر المونتاج ويتسلسل ويتنوّع جاعلًا العرض شتات صور. في عبارة أخرى، "جمال الفنّ شتاته". ما أعذب الكلام على مائدة عامرة بالنبيذ الأحمر التوسكاني، تتهادى بين الكارپاتشيو والسپاغيتي وسلطة الموزاريللا منقطة بالبندورة  الكرزيّة وعائمة بالزيت ومرقة الريحان. كانت فكرته أن نلتقي في مطعم إيطالي فاخر، نتحادث ونتمالح. "مطعم الماما"، سمّاه، و"بسطة بوي"، سمّاني. استغربت. توقعت أن يسميني نويري كيد. شرح أن المسألة لغويّة. "البسطة" تُلفَظُ بالطريقة عينها في الإيطالية.

- Basta means enough. Kafa! Kafa!
كفى! كفى!، ردّدها مرتين، ضاحكًا بأعلى طبقات صوته، Kafa! Kafa، كأني سمعتها Kafka! Kafka. ارتجّ المطعم بهدير ضحكاته المتلاحقة مع سعال. صحته هشّة. لاحظت رجفة في يديه حين ناولني صحنًا ملأه بالمعكرونة وسكب لي كأسًا ثانية من النبيذ. الطاولات حولنا شبه خالية. لا زبائن غيرنا سوى خمسة عَصْرَ خميس قارس. المطعم تفصيل صغير في فندق عريق، "كارلايل"، زاره مرارًا الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي لملاقاة ماريلين مونرو سرًّا. ما أنا بماريلين وما أحمد بجون ولا قطعًا من آل كينيدي، عائلته غزيري، أنعم وأكرم. أكرمني بوليمة استمرّت أكلًا وشربًا وحوارًا قرابة ثلاث ساعات. زهزهنا النبيذ متبوعًا بقدحيْ ليمونشيللو. سفرة شهية. اشتهيت لو كان معنا أَنَسْ وفاطمة وجون وماريلين. ماريلين قضت انتحارًا وجون قضى غيلة وفاطمة ماتت، الله أعلم كيف. أمّا أَنَسْ فخرّ صريعًا بصَلْيَة من رشاش بور سعيد أطلقها مسلح في ميليشيا حزب النجادة خطأ. حقاً، "السلاح في يد الخرا يجرح". طبعًا، تأثّر أحمد بمقتل والده إبّان الحرب الأهليّة عام 1958، غير أنّ حزنه على أبيه قارب دعابة ليست ملحوظة في حزنه على أمه. تفكّه بتعثّره في لفظ حرف السين وتنهّد متحسِّرًا على بئس مصيره. لم يزر أَنَسْ ابنه قط، ولم يحضر أحمد جنازته. دفع نفقات الدفن بحوالة بريديّة مرسلة من نيويورك. في سجلات قيد المهاجرين في الولايات المتحدة، حافظ على اسم أمه وانتقى اسمًا عجيبًا لأبيه. مرّة أخرى، زعم أن المسألة لغوية صرف وأنه فكّر في صوغ أحرف من مختصر كلمتين تؤلفان اسمًا واحدًا يجمع أبيه بنيويورك، تتوسطه آه الحسرة. استوحى لدغة الثاء في نطق أَنَسْ، وعمد إلى اشتقاق الكلمة الأولى من أَنَثْ، ثم استند إلى الإنكليزية في تأليف الكلمة الثانية من آه الحسرة(Ô) والتسمية الموجزة لنيويورك، ن.ي/NY، المجموع: أنثوني/Anthony .

****   
"أَنَسْ، أوه، أَنَثْ"، تأوّه متنهدًا وقرع كأسه بكأسي. إلى المعكرونة، عدنا. أسكنتني المأكلة الإيطالية روح فاطمة. شممت رائحتها. من مرفأ بيروت، أبحر أحمد غزيري ورسى في نيويورك في غضون أربعة عشر يومًا. ومن مطار دبي، طرت للقائه. استغرقت رحلتي أربع عشرة ساعة. ما كان أكل السپاغيتي مرامي من قطع الأميال والسموات. شئت محاورته في أفلامه. تحديدًا عمله مع جون كاساڤيتيس وصداقتهما. كاساڤيتيس عرّاب السينما المستقلة في أميركا وأعظم مخرجيها وأحبهم إلى قلبي بعد أورسون ويلز. أتيت نيويورك طلبًا لشهادته فجعلني شهيد روايته وبوي البسطة والنويري الإيريا. منتهزًا سكره على مائدة الطعام، حاولت تصويب المسار. أخفقت. لم يرغب في الكلام عن كاساڤيتيس. رجوته. انزعج. توقّف عن الأكل وسكت. بالشوكة والسكين، كوّم لفائف المعكرونة حتّى صارت جبلًا مكلّلًا بصلصة البندورة. نثر برش الپارميزان على رأس الجبل. فُكّت عقدة لسانه
- Too late, Basta boy

جئته متأخّرًا. "وقتي ينفد"، قال، "أمامي شهران أو ثلاثة. السرطان لا يمهل. اسمع، بسطة بوي، القصص تأتي وتروح. أنا رأيت ألف فيلم وفيلم وارتويت بألف صورة وصورة وعشت ألف حكاية وحكاية وربما ألف عام وعام. لدي قصة واحدة، أخيرة، سعيت بما أوتيت من قدرة وشهرة إلى إنتاجها. فشلت. رويتها للجميع، من أكبر رأس في هوليوود إلى أبسط الناس. للمرّة الأخيرة، أرويها لك. كأنها نورٌ تسرّب من مسلاط آلة عرض، لمعت حدقة عينه اليسرى وأدفقت ذكريات. حكى أنه بعد ظهر جمعة من آذار/مارس 1945، "نعم الجمعة"، أكّد، انهمكت أمه في تحضير الغداء. كان يراجع دروسه في الصالون، المفتوح على شرفة، وأخوه الصغير ابن السبعة أعوام، محمد، يلهو ببالون في الشرفة. على حين غفلة، أفلت البالون وقفز أخوه محاولًا الإمساك بخيطه. "محمد!"، صرخ. هرعت فاطمة من المطبخ، لحقها. رأت صغيرها يطير، طارت وراءه. تهاويا. وسارت قصّتهما سير القائلين إنهما ماتا معًا. جمد أحمد في أرضه وجمدت صورة الشرفة في عينيه.

أنساني غايتي من المجيء وغلب الشكّ على إيماني في السينما. ما نفع السينما إذا فاتها أن تروي قصّة خاب أمل ممثل من وزن أحمد غزيري في نقلها إلى الشاشة. عرضها على عدد من المنتجين. أعجبوا، تأثروا، اعتذروا. تحججوا أنها حادثة وليست قصّة. شجعوه على كتابتها والتوسع في معالجتها. "ما أنا بكاتب"، جاوبهم، "طرقت باب سيناريست صديق، ݒول شرايدر، كان أكثر لياقة في الاعتذار. اقترح تكليف كاتب يعرف بيروت كراحة يده، كاتب أصيل، أجل "أصيل"، إنها كلمته". تجاهل اقتراح الكاتب الأصيل. فلا أصيل في بيروت. المدينة أغرب من أن تكون أصيلة. عثمانيّة فرنسيّة متوسطيّة عربيّة زقاقيّة، نعم زقاقيّة، مدينة سائبة للأفلام المبتورة. وحده جمال أرناؤوط فهم أن بيروت "خزّق ولزّق". بيروت ليست ست الدنيا. إنها بنت الأرناؤوط.

****
رغم براعته في قطع اللقطات ولصقها، وقف أحمد عاجزًا حيال مشهد الشرفة. مع الوقت، أحس أن بعض ملامح المشهد تلاشى، المطبخ، الصالون، الشرفة، شقيقه، هو، حلت فاطمة محلهم جميعًا. صارت هي الصورة. ما أن أوشك ابنها على السقوط، أيقنت أنه راحل. رحلت معه. فورًا. "لم أرَ موقفًا مماثلًا"، قال، "حتّى الأنبياء تركتهم أمهاتهم يتعذبون ويموتون، انصرفن إلى الندب والسلوان. أمّا فاطمة فذهبت في حبّ ابنها حدّ الموت. عند الأم، الحب اختيار. نحن ندّعي الاختيار. أُغرمت بنساء كثيرات وتزوجت مرتين، أو ثلاثًا، نسيت. أحببت؟ نعم. اخترت؟ لا. أمي اختارت محمدًا وتركتني، تركت أبي. لعله الحبّ وليس مَنْ نحب. عانقت أمي الموت أكثر مما عانقت أخي. لم ترُم حُبًّا ناقصًا، أرادت الكمال. للأسف، الحياة تدرك كمالها في الموت".

قبل ثلاثة أشهر من لقائنا، احتفل أحمد بعيد ميلاده الحادي والثمانين. ولد في الثامن والعشرين من آب/أغسطس 1930. في التقويم الهجري، يصادف تاريخ ميلاده الرابع من شهر ربيع الآخرة، عام 1349. "ربيع الآخرة" وصف ملائم لحياته وسط أهله في النويري وفترة مرضه في نيويورك. على علمي، الربيع سمة الحياة وتفتّحها وليس صنو نهاية محتومة.

أنهانا النبيذ ولم ننه عشاءنا. أطفأنا سكرنا الطفيف بفنجاني قهوة محضرة ومغلية بنار خفيفة مثلما يشربها الطليان. "أعذرني على جهلي"، قلت، "هل كان أَنَسْ يبيع البن الإيطالي؟"، ضحك وسعل وعَقّب، "قطعًا، لا. حيلة أخرى من حيله".
- تفكّر فيه؟
- أَنَسْ؟ لا. كل يوم ينادونني به. اخترت اسمًا فنيًّا يذكرني به وبدكانه، بن غزيري. الشقّ الأول سهل. مرادف بن في الإنكليزيّة Ben. نويت الإبقاء على اسم العائلة لأن إيقاعه إيطالي، Gaziri. أقنعني وكيل أعمالي، كارلو دلمونتي، بتحسينه قليلًا. كي يستوفي شروط اللغة وشدّ الأحرف، أضفنا Z ثانية، ومن أجل الحفاظ على ارتفاع طبقة الصوت تدريجًا، ارتأى كارلو استبدال "I" الموجودة في وسط الإسم ونهايته بحرف "A". كان كارلو يكره الـ"I"، من اعتقاده أنه ينزل بالنطق إلى لفظ أبناء الشوارع، خلاف حرف A الأكثر صعودًا وجذبًا للسمع في النطق. نزولًا عند نصيحته، أصبح اسم العائلة Gazzara، واسمي الفني Ben Gazzara.   

****  
غادرت نيويورك مساء اليوم التالي عائدًا إلى بيروت من طريق دبي. بعد أسبوعين كتبت إليه إيميل شكر. لم يردّ. في 3 شباط/فبراير 2012، أُعلنت وفاته بسرطان البنكرياس. حزنت، خرجت من البيت. مررت في العنوان المفترض لدكان أَنَسْ، سألت عن رائد السينما في الإيريا، جمال أرناؤوط، عن حسن حاسبيني، ذهبوا أشتاتًا، لا خبر. بحسب العنوان، يقع محل "بن غزيري" في شارع ضيّق ينحدر في نهايته إلى حيّ متفرّع من البسطة الفوقا. مشيت. وجدت الحيّ. بين عواميده الكهربائيّة، رُفعت صور قتلى ويافطة سوداء أعطته اسم "وادي الشهداء". ليست حرب 1958 وإنما حرب خارج الحدود في سوريا. اختفى حزب النجادة واحتل مكانه حزب الله وحركة أمل. في عبوري من النويري إلى البسطتين الفوقا والتحتا، صادفت رتلًا من الأحباش، بينهم فتيان آسيويو الملامح، يؤدون صلاة الظهر خارج باب جامع البسطة الفوقا. زحمة سير، دجاج مشوي، شاورما، عربات خضر، زمامير، رندحة من فوق الشرفات قطعها بوق بائع كاز على صهوة حصان متهالك يجره وصهريجه. زفت مفلّع. من تحت الأرض، شلّال مياه الصرف. وروائح. تبدلت المعالم. تغيّرت الإيريا. أيـ..ي بالإيريا.
عدت إلى البيت. كنت جائعًا. اشتقت إلى أكلة علّمتني أمي تحضيرها. معكرونة محمّصة في الفرن. أعددتها كما يجب. انتظرت خروجها من الفرن. أحضرت سكينًا وملعقة كبيرة. تعوّدنا أنا وأمّي قطعها معًا وكأنها كعكة حبّنا. لم أستطع قطعها. صدّت شهيتي. المعكرونة من دون أمّها لا تؤكل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها