السبت 2017/11/25

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

المتسولة الأنيقة

السبت 2017/11/25
المتسولة الأنيقة
increase حجم الخط decrease
هل حصل وصادفتم متسولة أنيقة ترتدي من أفضل العلامات التجارية العالمية وطلبت منكم نقوداً؟ نعم إنها متسولة وأنيقة في آن، هذه حقيقة. 
لا بد أن في الأمر قليلاً من الغرابة، لكن إن اعتدتم السير في أحياء بيروت الشرقية، فإنكم ستلتقون بلا شك بإحدى تلك النماذج من المتسولين والمتسولات، إن لم تلتقوا بها سابقاً لسوء الحظ.

كانت المتسولة، سيدة في الخمسين من العمر، شعرها أسود وقامة رشيقة، جميلة المظهر، لكنها تبدو مرتبكة. للوهلة الأولى تظن أنها قد أضاعت شيئاً ما، ربما تشبه أولئك الذين نلتقيهم بعدما ضلوا الطريق وأرادوا الاستفسار عن وجهتهم المقصودة. وهي أيضاً، تبحث في ملامح المارة، قبل أن يقع اختيارها على أحدهم، ترميه بابتسامة خجولة وتقترب منه طالبة المساعدة. لحظتها، تجتاحه أسئلة كثيرة: "من تكون؟ هل أعرفها؟ لماذا لا أتذكرها؟ لا، حتماً هناك خطأ ما، ربما ظنتني شخصاً آخر". 

فجأة تتبدد الفرضيات كلها، حين تقول بلكنتها الفرنسية "الأكابرية": "مسيو ممكن سؤال؟". وبسرعة وبلا أي تردد يجيبها "بالتأكيد تفضلي"، ليس لأنه يضمن امتلاكه الإجابة، بل لفضول عميق لمعرفة ما تريد سيدة بهذا المظهر، أو ربما لأنه لا يرفض تقديم المساعدة لأي كان، قبل أن يصيبه الذهول في اللحظة التي تهمس فيها في أذنه بصوت منخفض وعيون شبه مغلقة ووجه ينصبغ بالحزن والأسى، وتقول: "لو سمحت ضيعت جزداني وفيه مصرياتي، بتقدر تعطيني شوية مصاري؟".  

أنا شخصياً التقيتها ثلاث مرات. المرة الأولى كانت في منطقة السوديكو، استوقفتني بعدما أمعنت فيّ النظر، وطلبت مني نقوداً. شعرت حينها بالأسى لأنها في موقف محرج للغاية، حتى أني ارتبكت قليلاً، وسألتها عن حاجتها من النقود، لتقول أنها تريد أجرة الطريق كي تعود الى منزلها. حينها نظرت في محفظتي فلم أجد سوى 20 ألف ليرة (13 دولاراً تقريباً)، إذ اعتدت منذ أعوام الدفع بالفيزا كارد لكونها أكثر أماناً.

سألتها إن كان نصف ما أملك يكفيها، ظناً مني أنها تسكن في مكان قريب، لكنها قالت أنها تريد العودة الى منزلها.. في طرابلس! شعرت بتأنيب الضمير، إذ لم يسبق لي أن ذهبت الى طرابلس في سيارة أجرة، ولا أعلم شيئاً عن كلفة الطريق، بعدها أخرجت كل ما لدي من نقود، لكن السيدة بدا على ملامحها شيء من التذمر. ومن ثم عادت لتتوسل منحها نقوداً إضافية كي تشتري طعاماً فهي لم تتناول منه شيئاً منذ الصباح، كما تقول. 

وامتعضت كثيراً حين قلت لها أنني لا أملك نقوداً إضافية. وقتذاك شعرت أنها لا تقول الحقيقة، فكيف لامرأة حدث معها موقف محرج، كهذا أن تطلب أموالاً إضافية عوضاً عن اكتفائها بأجرة الطريق. "بالطبع هي إمرأة محتالة"، قلت في نفسي بعدما امتنعت عن إعطائها أي نقود، لكني لم أكن متأكدة، فأنبني ضميري مجددائً: "هل أخطأت في تقديري وتركتها بلا مساعدة؟"

لكن في اليوم التالي تبددت مخاوفي، حين أخبرت أصدقائي بالأمر. فضحكت صديقتي قائلة: "هل وقعتِ في فخها، هي ليست إمرأة أضاعت محفظتها، إنما إمرأة تهوى التسول". يبدو أن هذه السيدة تعاني اضطرابات نفسية، كالأشخاص الذين يحبون سرقة الأشياء من الآخرين، أعرف فتاة تهوى سرقة الكتب مثلاً. وهذه السيدة بات واضحاً أنها تهوى التسول ونيل العطف من الآخرين.  

عدت والتقيتها بعد أشهر قليلة في الأشرفية، عرفتها فوراً حين كررت السيناريو والحجة. اعتذرت بلباقة متجنبة الحديث معها. مرت أيام قليلة والتقيتها مرة أخرى وابتعدت عنها على الفور، وأنا أبتسم مستعرضة في ذهني شوارع بيروت التي تمتلئ بالمتسولين والفقراء والمتشردين تحت الجسور وفي الزوايا الباردة. وشعرت للحظة بتناقض حاد بين تلك اللحظات التي جمعتني بالمتسولة الأنيقة ومقدار البؤس الحقيقي الذي نمر الى جانبه يومياً ونغض نظرنا عنه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها