السبت 2019/01/26

آخر تحديث: 16:33 (بيروت)

صانع الكعك اللبناني

السبت 2019/01/26
صانع الكعك اللبناني
increase حجم الخط decrease
وراء جدار يخفي آثار الحرب اللبنانية في منطقة بشارة الخوري، كان العم أبو بهيج يلوذ بفيء الصباح، مقابل فرنه. يحرك العاملين في الفرن، الواقع وراء تمثال رئيس الاستقلال، من كرسيّه الصغير، وفي الكرسي الثاني يستقبل أصدقاءه و"أبناء البلد". 
اعتاد ابو بهيج، الرجل المغزوّ بالشيب والوقار واللطف والكرم، على هذا المنوال لسنوات.. ربما منذ سنوات الحرب، وما قبلها. لا أدري. لكني عرفته في هذا المكان تحديداً منذ وطأت قدماي بيروت لأدرس في كلية الاعلام والتوثيق. 

كان لارتياد المكان، ثلاث مرات اسبوعياً على الاقل في مطلع الألفية، مغريات عديدة. بعضها وجدت تفسيراً لها، وبعضها الآخر فسّرته في سنوات لاحقة. فالمكان يعبق برائحة والدي الراحل، الذي كان يحطّ رحاله عند أبي بهيج كلما نزل إلى بيروت. تتردد بين ضوضاء السيارات العابرة في مستهل شارع راس النبع، عبارات الترحاب بين الرجلين. هما ابنا القرية نفسها. يتبادلان عبارات الاطمئنان وأخبار القرية وبيروت. وغالباً ما كان اللقاء ينتهي بـ"مشكاك كعك" صغير يحمله والدي في السيارة ويردد حوله عبارة "أطيب كعكة بتاكلها هون". 

"أطيب كعكة"، دفعتني إلى ارتياد الفرن الصغير، العابق برائحة السمسم، بعدما نزلت الى بيروت. كان هناك هدف آخر لارتياد المكان، ورمي الصباح على ابو بهيج. لذة الكعك البيروتي، كما نصفه في القرية. وأدركت أيضاً أن المكان له رمزيته، تلك المجهولة في ذاكرتي، والمرتبطة بقصة الاستقلال. كما أدركت أن إصراري على "الكعكة البيروتية"، نابع من قناعة هوياتية بالكعكة اللبنانية، في ظل حديث راج لفترة في العام 2005 حول الكعكة "الوطنية" وتلك السورية. 

في الواقع، يختصر الرجل الثمانيني، وفرنه الصغير، كل هذه المجموعة من الاعتبارات الشخصية التي قادتني اليه. فهو جزء من ذاكرة كل شيء. ذاكرة شخصية، مرتبطة بوالدي وبيئتي. وذاكرة وطنية مرتبطة بالاستقلال، وبالتغيير المجتمعي الذي قام بعد الاستقلال، كخروج نهائي من آثار نظام مقاطعجي انتهى شكلياً في العام 1864، وبقيت تداعياته حتى منتصف القرن الماضي. 

أبو بهيج، وغيره من أبناء الجيل نفسه، نزحوا من القرية الجنوبية بعد الاستقلال، التحاقاً بجيل سبقهم في منتصف العشرينيات، بحثاً عن مورد رزق آخر، في ظل تراجع الفائدة من العمل الزراعي لدى ورثة أصحاب الامتيازات العثمانية. 

يشكل هذا الجيل ذروة التحول المجتمعي طمعاً في تغيير على مستوى اقتصادي محليّ. اتخذوا مكاناً لهم جذب النازحين من القرية بعدهم للسكن في محيطهم، وللعمل في "الكار" نفسه. فباتت المهنة الواحدة، صفة جامعة لأبناء القرى الجنوبية. مثلاً، امتاز أهالي تبنين الجنوبية بالطباعة وتوزيع الصحف. وأهالي بنت جبيل بصناعة الأحذية. وأهالي ميس الجبل وجويا ببيع الأدوات المنزلية. وأهالي تفاحتا بالـ"تنجيد"، وأهالي البابلية واللوبيا والنميرية وكوثرية السياد، بصناعة الخبز والعمل في الأفران. واللافت أن مَن لم يكن صانعاً للعكك، كان بائعاً له. هي منظومة متكاملة من الصناعة الى التسويق، امتدت على عشرات السنين. 

أبو بهيج، واحد من هؤلاء النازحين باتجاه "الفرن"، مثل "أبو علي" الذي اختار لفرنه موقعاً آخر في منطقة الغندق الغميق (بات موقعه الآن في طلعة المالية بعد وفاة الرجل)، وآخرين عملوا في صناعة الخبز في الأشرفية ورأس النبع والبسطا وغيرها. يقول هؤلاء انه "خبز الفقراء" الذي تراجع الاقبال عليه في ظل انحسار الصناعة التقليدية لصالح الآلات. وهو ما عبّر عنه ابو بهيج أخيراً في تقرير بثته قناة "روسيا اليوم"

يرن الهاتف صباحاً برسالة من البلدية تعلم أبناء البلدة بوفاة أبو بهيج. الخبر لا يشبه الأخبار المكررة من الجهة نفسها. ولا يمكن التعامل معها بشكل عابر. أبو بهيج، بالنسبة إلي، هو جزء من ذاكرة. من ثورة. من استقلال هش تعرض للقنص يوماً ما في ساحة رئيسه. هو آخر جيل المؤسسين للثورة على امتيازات الماضي. وواحد من آخر المتمسكين بخبز الفقراء. لم تغره آلات الخبز، ولا انحسار الاقبال على المنتج. قديم بقي على قِدَمه. وصورة من مستقبلنا، يستحق أن نقول له في ظل الجدار مقابل باب الفرن: "صباح الخير يا عم". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها