الإثنين 2019/04/08

آخر تحديث: 17:00 (بيروت)

لا ذاكرة للسويداء

الإثنين 2019/04/08
لا ذاكرة للسويداء
مدرج روماني في السويداء
increase حجم الخط decrease
"خذ ذهب الأرض والشمس، واترك لنا أرض أسمائنا"
(محمود درويش) 

.. ولايزال يغمرني حنين مفاجئ كلما مَشيت في أزقة مدينة السويداء...

شتاء خفيف، أُمسك بذراع والدي ونصعد التلة معاً، أُنصت لحكاياه عن الدار الحجرية التي ولد فيها هنا، عن بركة الماء الرومانية السورية، يملأون منها جرار الماء، عن جمال المكان، عن غناه وفقره، عن ساكنيه، من بقي ومن رحل ومن لايزال على قيد الحياة. نقف في أعلى التلة نراقب المدينة وهي تنحدر نحونا بهدوء فتبدو أكثر جمالاً وصمتاً تحت مطر غزير وأضواء متناثرة.

في بداية الستينيات رُدمت بركة الماء لتتحول من مورد شرب إلى ساحة للموت يُؤبّن فيها الموتى ويُصلّى عليهم. كائن غريب وثقيل بغطاء معدني صار يتربع بدلاً منها وسط التلة، يُشوه الرؤية ويَعبث بالمشاعر.

الماء الذي كان يصلها عبر أقنية رومانية من بركة الحج في الشرق، والتي تحولت بدورها إلى موقف مأجور للسيارات بعدما جُففت، صار يتفجر تحت أقبية الأبنية ليتم نَضحه للشوارع بجهود فردية مُضنية. 

في الثمانينات، وأثناء حفر شبكة صرف صحي في مركز المدينة، عُثر على تلك الأقنية الرومانية التي صُمّمت كإسطوانات شبه كاملة متساوية ومتداخلة بدقة متناهية، أُخرجت منها ثلاث قطع وُزّعت كهدايا ثم أُعيد الردم فوقها.

من أعلى التلة "المدينة العليا-الأكروبول"، بإمكانك رؤية "المشنقة-قوس الكنيسة الصغرى" التي تتوسط الطريق المحوري وحيدة مثل "قبة جينباكو في هيروشيما"، شاهدة على طريق ظهر في بداية التسعينات، بقرار سياسي، هادماً البيوت، ودافناً تحته معظم تاريخ هذا المكان وكأنه لم يكن. 

خرج أصحاب تلك البيوت وفي جيوبهم مبالغ مالية لا تساوي أبداً ما تركوه خلفهم، خرجوا بلا اعتراض وبلا مساومة. أحد السكان حاول أن يرفض البيع، بيعَ الذكريات والحكايا، لكنه لم يكن وقتاً للعصيان، بل للخوف... وقَّع مُجبَراً، ونادماً غادر بيت أجداده.

ثلاث لوحات فسيفسائية كبيرة، اثنتان غادرتا إلى مكان ما في لبنان! والثالثة اختفت بسرعة تحت قواعد بناء اسمنتي جديد.

الكنيسة، المدرج الصغير "الأوديون"، الحمّامات، والمسرح الكبير الذي لا يعرف عنه أهل المدينة شيئاً رغم أن حجمه يقارب مدرّج بصرى، البرك والساحات والكثير من الآثار شاهدة على حضارات مرت في هذا المكان، بدءاً من العصر الحجري وإنتهاءً بالحضارة الإسلامية.

منذ التسعينات حتى الآن، ما زالت الأبنية السكنية الإسمنتية تظهر مثل مسوخ، وجوهها مكسوة بحجر بازلتي هنا وهناك، تشوه المكان وتزيده فوضى ولامنطقية، وتعمّق اللامبالاة اتجاه ممانعة مديرية آثار ليست سوى دمية كغيرها، ولا تستطيع إيقاف أحد عن البناء أو ردعه في منطقة لم تستطع اليونيسكو دخولها للعمل فيها كمنطقة أثرية.

في العام 2003، عادت الحياة للمكان، الطريق أُعيد لمستواه الحقيقي، والبيوت التي تمّ ترميمها بحجارة المنطقة تحولت متاحف وأسواقاً للمهن الشعبية، ومتاجر، ومقاهي ونُزلَ. قبة زجاجية تتوسط المكان كمتحف للثورة السورية ولتاريخ تم تهميشه طويلاً، لا مكان للإسمنت ولا للحجر البازلتي الجديد. شارع مبلط بالحجارة بدلاً من الإسفلت، و"المشنقة" ليست سوى مدخل لتاريخ ضائع. تلك الحياة كانت مجرد لوحات لمشروع تخرجي، ولم تكن سوى أحلام لن تغدو حقيقة أبداً...

فوق الطريق يمر جسر حديدي صدئ، لا يزيد مكانه أهمية على ضرورة الطريق، لا أحد يعبره سوى الريح، تكنس قشور البزر وأكياس النايلون على امتداده، ثم تلقيها فجأة. 

فوق الجسر تستطيع أن تُراقب الشاحنات والسيارات والدراجات تعبر مسرعة فوق التاريخ، غير مكترثة ولا مبالية. تستطيع أن تُراقب أقفاص الحمام والدجاج، عبوات البنزين والمازوت، والأكشاك المعدنية أمام واجهة الكنيسة التي تحولت إلى مشتلٍ زراعي. تستطيع أن ترى المدرج الحجري الصغير، المُرقّم والمنحوت بعناية بالغة، وقد تحول سلة مهملات. تستطيع أن تسمع ضجة سرافيس وباصات وتكاسي أجرة ممتلئة بالبشر، تغطي حكايات هذا المكان وتجعله مجرد طريق اسفلتي يهبط ويعلو فوق الركام ويقودك إلى الجنوب السوري.

فوق الجسر تستطيع أن تُراقب حياة هذا المكان الغني والموغل في الفقر، تستطيع أن تدرك أنه لا يختلف كثيراً عن غيره من الأماكن السورية. تحت شارعه العريض الذي يخترق المدينة، دُفنت حضارة كاملة، قصص وحكايا وأسرار.. وربما أرواح أيضاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها